تثير موجات الإرهاب الدامى، وحفلات القتل الجماعى باسم الدين، التى حصد آخرها أرواح شهداء مصر الواحد والعشرين، ضرورة استعادة الإسلام العظيم من قبضة التطرف اللعين. إنها مهمة الأمس التى تأخرت إلى اليوم، ولا يجب أن تنتظر للغد. وهى المهمة نفسها التى حاول الرئيس أن يدركها بدعوة الأزهر الشريف إلى تجديد الخطاب الدينى. غير أن الدعوة بهذه الصيغة (تجديد الخطاب)، وهذا التوجيه (إلى الأزهر)، قد تكررت كثيرا بموازاة موجات إرهاب سابقة، من دون تحقيق نتائج حاسمة، الأمر الذى يكشف عن إشكاليات جوهرية تواجهها، سنتوقف عندها اليوم، وفى الأسابيع الخمسة القادمة. الإشكالية الأولى مفاهيمية تتعلق بقضية الخطاب نفسه. يعنى الخطاب، عموما، استراتيجية ما فى القول عن الشىء، أى نمط للافصاح الشامل عن واقع بعينه، ومن ثم فهو نتيجة مترتبة على واقع سائد بالفعل، لا يمكن تقديم صورة عنه لا تؤيدها المعطيات الواقعية وإلا افتقد الخطاب منطقة وتحول إلى محض صياغات بلاغية ومزايدات كلامية لا تقنع أحداً. ويعنى الخطاب الدينى، خصوصا، بكيفية عرض الدين أو الدعوة إليه أو الدفاع عنه ضد منتقديه، حيث يهيمن الطابع السجالى، على الأقل، إن لم يكن الطابع التبشيري. وهكذا يبقى مفهوم الخطاب الدينى مهجوسا بالآخر، خصوصا الغربى، وبتلك الرغبة الدفينة فى الدفاع عن أنفسنا فى مواجهته، وتزويق صورة التدين الإسلامى القائم فعليا لدينا، بينما المطلوب الآن لا يقل عن تجديد الفكر الإسلامى، فى مكونه القيمى والتاريخى والإنسانى، بإلهام المكون الاعتقادى المتسامى على التاريخ. أى تجديد (تديننا) وأفكارنا عن (إسلامنا)، وذلك عن طريق إعادة تعريف ماهية النص نفسه، قبل الولوج إلى مساءلته على مستويات مختلفة من العمق والجذرية تتوافق مع مستويات إحكامه وتساميه، تطويرا لواقعنا نحو الأفضل. لقد هيمن على الخطاب الفكرى العربى الإسلامى نزعة دفاعية إزاء التردى التاريخى والحضارى لمجتمعاتنا منذ مطالع العصور الحديثة، حيث تعين على فقهائنا ثم مفكرينا منذ عصر النهضة القيام بالمهمة الأولى فى نفى العلاقة بين تخلفنا الحضارى، وبين إيماننا الإسلامى، وهى قضية كبرى استغرقت بحوثا مطولة، وأنتجت تأملات على قدر متفاوت من الصواب. غير أن النزعة الدفاعية هذه أخذت طابعا حادا إزاء التردى المحسوس فى قدرة مجتمعاتنا (المتخلفة) أصلا على ضبط انفعالاتها العنيفة، وعلى التحكم فى موجات غضبها العارم، التى تفجرت فى صورة إرهاب وحشى صار ينال من المجتمعات الأخرى بطول العقد الأول من القرن الحالى، بعد أن كانت هى نفسها قد اكتوت به فى العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضى، وهنا أخذ جهدنا الثقافى يقتصر على مجرد تبييض وجه واقعنا الفكرى، فى مهمة ثانية صارت أصعب من الأولى. قادت النزعة الدفاعية، خطابنا الفكرى، وبشكل تدريجى، إلى نزعة أخرى (هروبية) للإفلات من ضغوط الواقع المهترئ، الذى انتهى إليه حال الأمة، وجعل منها منبعا أساسيا للعنف فى العالم، إذ طالما تم اللجوء إلى رحاب النص القرآنى فى حضوره الرائق، وشفافيته العالية للدفاع عن أنفسنا فى مواجهة واقعنا، حيث طرحت القيم الجوهرية، التى تنطوى عليها الرؤية القرآنية للوجود، كالعدل والشورى وحرمة النفس الإنسانية، والتسامح مع أهل الملل والأعراق الأخرى، باعتبارها قيمنا «نحن المعاصرين، قبل أن نستدير إلى الآخرين متساءلين: لماذا لا يفهمون ديننا؟ ألم يقرأوا هذه الآية الكريمة، وذاك الحديث الشريف؟. وإذ نطرح هذه التساؤلات لا ندرى كم شوهنا أنفسنا، وكيف أن الصورة التى نروجها عنا غير موجودة إلا فى خيالنا الجمعى كمثال يلهمه نصنا المقدس، ولكنها غير متجسدة فينا ولا حاضرة فى واقعنا، ومن ثم فإذا ما نظر الآخرون إلينا فلن يجدوا منها شيئا، ولن يصدقونا، كونهم غير معنيين إلا بواقعنا المعيش ولا يعنيهم قط خطابنا عن أنفسنا أو بالأحرى «خطابنا نحن» عن الخطاب الأصلى (القرآن الكريم)، أو السنة النبوية المشرفة، أو حتى ذكرياتنا عن التجربة التاريخية البعيدة، حيث كانت أنقى تجاربنا فى العصر الراشد، وأمضى مواقف علمائنا وفقهائنا فى العصر التالى لهم، أى عصر تدوين الثقافة العربية الكلاسيكية، وليس خطابا عن واقع حقيقى حى لدينا، ممتد وفاعل فينا، قادر على التحكم بمصائرنا وتحقيق خلاصنا من واقعنا الفعلى، حيث تترسم معالم الاستبداد فى مواجهة مثال الشورى، وتترسخ علامات الحرمان الاقتصادى والفقر والتهميش للغالبية من مواطنينا فى مقابل مثالى العدل والمساواة اللذين يرسم النص ملامحهما، ويتجذر النزوع العدمى الى العنف، وتنمو رغبة الانتقام من الآخرين، فى تناقض تام مع مفهوم الرحمة، وملكة التسامح التى تسود فى النص أجوائهما. ولأن العقل الغربى واقعى دائما، مادى أحيانا، فإنه لا يشاركنا صورتنا عن أنفسنا، ولا يجد نفسه معنيا بالبحث معنا فى خطابنا الأصلى/ النقى، ومن ثم لا يجد خطابنا المعاصر منه تصديقا لأن الحاضر المعيش يكذبه، ولأن خطابنا الأصلى فى نظره ليس إلا يوتوبيا محلقة فى فضاء الزمن موصولة بسحر الماضى، طالما لم يتجسد فى الواقع المعيش، إذ لا يمكن لأى خطاب فكرى/ دينى، مهما بلغ ذكاؤه تقديم مرتكبى إرهاب 11 سبتمبر فى الولاياتالمتحدة، ولا متطرفى 7 يناير فى فرنسا باعتبارهم مجاهدين أحرارا كغاندى أو مانديلا ضد الاحتلال والعنصرية، ولن يكون أمامه غالباً إلا محاولة مستميتة لإبراز التمايز بينهم وبين المسلمين المعتدلين، أو بين ما قاموا به وما يقوم به الفلسطينيون من نضال وطنى ضد إسرائيل التى سعت إلى اغتنام الحدثين فى الإجهاز على قضيتهم، وذلك فى نزعة دفاعية سلبية إزاء موقف معقد يسهل على المعادين لنا استغلاله فى إهدار طاقتنا، ومن ثم فإن الرغبة الصادقة فى النهوض لابد وأن تنطلق مباشرة نحو اصلاح مجتمعاتنا نفهسا، فكرا وواقعا، وليس خطابا وسجالا. لمزيد من مقالات صلاح سالم