جاء الحكم على الإسلام بالتخلف الدينى المناهض لحركة الارتقاء العلمى فإذا كانت المسيحية أعاقت حركة العلم فى أوروبا فإن الإسلام أعاق حركة العلم فى الشرق بقدر وجود فجوة بين «فهم الغرب» و«الإسلام الأصلى»، توجد فجوة من نوع آخر بين «فهم المسلمين» و«الإسلام الخالص». والحل ليس تجديد الإسلام، بل هو تجديد المسلمين. وفى ظنى أن هذا سوف يقضى على الفجوتين فى وقت واحد! كيف؟ إن تجديد الخطاب الدينى يجرنا إلى مجموعة من الإشكاليات الحقيقية التى تتعلق بواقع المسلمين اليوم وعلاقتهم بالإسلام الحقيقى؛ وهى علاقة تقوم على فهم هش ومزيف، ولذلك ازدادت الفجوة بين المسلمين والإسلام. وهذه الفجوة، لا تسأل عنها فقط الظروف التاريخية والاجتماعية، إنما يُسأل عنها أيضاً «الخلل فى طرق التفكير» وهو خلل جاء نتيجة التعليم القائم على الحفظ والتلقين لا الفهم والتدبر، والمصيبة أن من يحاول الفهم لا يُعمل عقله، وإنما يستعير فهم الأقدمين أو يستورد فهم الغرب! وتتمثل إشكاليات الفجوة فى: لماذا يحصر المسلمون أنفسهم فى جانب ضيق: نصف الجسد الأسفل، الجنس، الزوجات، الطقوس.. بينما رؤية الإسلام أوسع من ذلك بكثير: الكون، الإنسانية، الحضارة، التاريخ، العدالة الاجتماعية، الإنصاف؟ لماذا يفهم البعض تعاليم الله على أنها تعاليم شكلية حرفية تتعلق بالظواهر أكثر مما تتعلق بالبواطن؛ ومن ثم حوّلوها من تعاليم للروح والجسد معاً إلى تعاليم للجسد فقط، وحولوها من تعاليم للسلوك إلى تعاليم للمظهر والشكليات بوجه عام؟! والمفارقة المتجددة: لماذا يفشل المسلمون بينما هم يؤمنون بدين عظيم عالمى يحمل بداخله كل عناصر التطور؟ لماذا انهزم المسلمون فى الماضى أمام التتار بينما انتصر عليهم الإسلام؟! ولماذا ينهزم المسلمون منذ قرون أمام الغرب، ولا يزال الإسلام صاعداً؟! ثم لماذا فشل المسلمون فى استعادة ماضيهم المجيد الذى تميز بالقوة والإنجازات الحضارية، والذى أعقبه فترة غلب عليها التدهور الخطير والسقوط فى بئر التخلف بل والتهميش؟ ما الأخطاء التى أدت بهم إلى هذا المصير؟ ولماذا؟ وما الذى يقتضيه ذلك من تحركات فى المستقبل؟ وما أسباب الفشل فى المصالحة بين الإخوة الأعداء: الإسلاموية الأصولية فى مقابل الإسلاموية الليبرالية؟ ولماذا فشلت التيارات الأصولية فى اتخاذ موقف عقلانى واقعى فى مواجهة تيار العولمة المتسارع الذى يحمل اللهجة الأمريكية؟ ولماذا فشلت فى تحقيق حالة جديدة من الانسجام بين «الإسلام» و«المعاصرة» بشكل يمكّن المجتمع الإسلامى من اللحاق بالركب ودخول الألفية الجديدة بخطى واثقة تعتمد على الثقافة والتمدن؟ هذه إشكاليات تحتاج إلى إجابة، وهى أيضاً شجون تثيرها حالة «التناقضات» التى يعيشها العالم الإسلامى والتى عجز التيار السياسى الإسلامى عن حلها، ومن ثم عجز عن تقديم نموذج عصرى حداثى يقرب الإسلام من العالم، ويقرب العالم من الإسلام. لكن إلى متى سوف تستمر هذه الإشكاليات؟ إنها فعلاً إشكاليات حقيقية، وتحتاج إلى حل لا فى الكتب والمقالات، بل فى الواقع المرير الذى ينظر فيه العالم إلى الإسلام كأيديولوجية للإرهاب! والمسئول عن ذلك ليس قصور النظرة الغربية فقط التى تخلط بين جماعات الإرهاب والإسلام، بل المسئول عن ذلك أيضاً المسلمون بقصورهم وضعفهم وعصبيتهم وتخلفهم عن تقديم مشروع علمى وحضارى متمدن يواكب العصر. إن آلاف الخطب العنترية وآلاف العمليات الإرهابية لن تحل أى إشكالية من الإشكاليات السابقة، بل سوف تزيدها تعقيداً، وهذا ما برهنت عليه المائتا عام الأخيرة. ومع ذلك لا تزال الخطب الجوفاء مستمرة، ولا تزال العمليات الإرهابية جارية! إن المشروع العلمى الحداثى هو الإجابة الوحيدة التى يمكن تقديمها لتجاوز العيوب التقليدية التى يقع فيها الخطاب الغربى، ومن تلك العيوب ذلك الطابع الذى يسيطر على الخطاب الغربى فى اتهام الإسلام جزافياً ودون برهان حاسم: إما بضعف البعد الروحى، أو بالتخلف الدينى المناهض لحركة العلم، أو بالإرهاب! وقد جاء الحكم الأول نتيجة «المقارنة المعكوسة» بالمسيحية؛ حيث لا ينظر للإسلام وفق جدليته الخاصة، بل كانعكاس مقلوب لتاريخ المسيحية. فإذا كانت المسيحية رهبانية روحية، فإن الإسلام حسى مادى. وهكذا جاء الحكم على الإسلام بنقص الروحانية نتيجة عملية قلب عكسية. فى حين جاء الحكم على الإسلام بالتخلف الدينى المناهض لحركة الارتقاء العلمى نتيجة «قياس المثل»، فإذا كانت المسيحية قد أعاقت حركة العلم فى أوروبا، فإن الإسلام كذلك قد أعاق حركة العلم فى الشرق! وهذا بالطبع موقف الاستشراق العلمانى المناهض للكهنوت، لكن يوجد موقف آخر اتخذه الاستشراق التبشيرى الذى قرن بين تقدم أوروبا والدين المسيحى من ناحية، وبين تأخر الشرق والدين الإسلامى من ناحية أخرى! بينما جاء الحكم على الإسلام بالإرهاب، نتيجة «الخلط» بين الإسلام كدين خالص وعقول قطاع من المسلمين! وتستمر المغالطة وتتسع لتزعم أنه إذا كانت المسيحية مسالمة فالإسلام محارب! ولا يريد أحد منهم أن يفهم أن الحرب فى الإسلام إنما هى حرب دفاعية عادلة، دفاعاً عن العرض والدم والأرض والحرية، وتحقيقاً للعدالة الاجتماعية والقانونية. بينما المسلمون يظهر فى طوائف منهم -منذ أمد بعيد- مفاهيم مغلوطة عن الجهاد بوصفه إكراهاً على الإيمان، وبوصفه فرضاً للرأى الواحد. وتمتد المفاهيم المغلوطة لتواجه الرأى المخالف بالحديد والنار! ولا يزال يسيطر على قطاعات كبيرة منهم الرؤية الأحادية للعالم، بينما الإسلام نفسه يعترف بالتنوع البشرى، ويدعو للتعايش الإنسانى. وهذا هو «قلب الحداثة» التى لم يدخلها المسلمون المعاصرون حتى الآن!