لم يكن فى ذهن أم كلثوم أن تغامر به وتفرضه ملحناً يقف في الصف الأول مع عمالقة الموسيقى الذين تعاملت معهم أو تغامر بمستقبلها الغنائى كسيدة للغناء العربى تنتظرها الجماهير العربية مساء الخميس الأول من كل شهر، ولكنها كانت علي قناعة تامة بأنه سيصبح ملحناً واعداً ويكون له مستقبل كبير رغم انه لم يبلغ الثلاثين من عمره عندما استمعت الي رائعته الأولي في فيلتها المطلة علي نيل الزمالك وهو يغنيها بصوته علي العود من كلمات زميل مشواره الفني عبدالوهاب محمد، ولذا فلم تتعامل معه في اغنية واحدة بل مجموعة من الأغنيات التي كان كل منها حدثاً غنائياً رائعاً حقق نجاحاً مبهرأ في كل موسم من مواسمها الغنائية وساعده في ذلك كبار الشعراء الذين تعامل معهم كملحن مثل مرسى جميل عزيز ومأمون الشناوي وعبدالفتاح مصطفي وغيرهم ، ولم يكن عبدالحليم حافظ مخطئاً عندما أطلق عليه لقب « أمل مصر في الموسيقى » من كثرة الألحان التي أبدعها لكبار المطربين والمطربات المصريين والعرب ومنهم نجاة الصغيرة وفايزة أحمد وشادية ووردة وصباح ومحمد رشدى وقنديل ومحرم فؤاد وغيرهم، وارتبط اسم بليغ حمدى بكبار نجوم الغناء وعمالقة الشعر الذين كان يحلم كل منهم أن يحظى بلحن له لدرجة ان بعض النقاد اطلق عليه لقب « سيد درويش عصره » لروعة الحانه المبهرة والجمل الموسيقية الرائعة التي كانت تشد آذان المستمع بمجرد سماعها وللجديد الذي تميز به عن أقرانه الملحنين في ذلك الوقت خاصة في اغنياته الوطنية التي انتشرت بشكل غير مسبوق بمناسبة انتصار اكتوبر ، وتشاء الظروف ان يبتعد بليغ عن وطنه الذي أحبه مغترباً لأكثر من خمس سنوات ،متنقلاً بين لندن ودول عربية أخري بعد حادث سقوط إحدي المطربات العربيات من شرفة شقته الخلفية بميدان سفينكس وفارقت الحياة وانتقلت الشرطة علي الفور للتحقيق في اسباب الحادث مما جعله يوكل أحد محاميه في القضية ويغادر القاهرة ولم يعد الي بلده الا بعد ان انتهت القضية لمصلحته وتأكدت براءته بعد ان ثبت ان الوفاة كانت قضاء وقدرا ، وظلت فترة الغربة تسيطر علي تفكيره وشعوره كفنان وطني مبدع يعاني مرارة الاغتراب وفقدان أصدقائه كبار الشعراء الذين كان يتعامل معهم ولم يكن يمر يوم دون أن يلتقى مع احدهم في قصيدة أو أغنية جديدة ، ولم يكن له ونيس في غربته سوى العود الذي لا يفارقه وأوراق النوت الموسيقية التي يدون عليها ابداعاته الموسيقية في غربته وتتحول الي الحان رائعة تنقصها الكلمات التي يحار في البحث عنها دون ان يجد من يسعفه بكتابتها من اصدقائه الشعراء الذين فرقت بينهم الحياة وهناك ينزل عليه وحى الشعراء فيبدع أغنيات جديدة كتبها وتغنى بها بعض نجوم الغناء في المغرب وسوريا ولبنان وغيرهم الذين كانوا علي اتصال به في غربته وكان بعضهم يسافر اليه والبعض الاخر يرسل اليهم النوتة الموسيقية للألحان والكلمات ليسجلوها في القاهرة او في مقر اقامته في الغربة ويتم طبعها على اشرطة كاسيت او فيديو كليب لتذاع هنا أو هناك وكثيرا ما كان يتعاون مع صديقه المؤلف والموزع الموسيقي المعروف ميشيل المصرى ( الذي كان علي اتصال دائم به ) وكثيراً ما كان يسافر إليه في لندن ويعقدان معاً جلسات لبحث ما أبدعه من كلمات وألحان وتكون ثمرة هذه الجلسات بعض الاغنيات المتكاملة ليشدو بها بعض المطربين والمطربات العرب نختار من بينها رائعته الشهيرة أغنية « انا بأعشق» لتكون من نصيب الفنانة الكبيرة مياده الحناوي التي انبهرت بها كلمات ولحناً ويقول مطلعها « أنا بأعشقك .. يامن ملك روحي بهواه .. الأمر لك .. طول الحياة .. طول الحياة .. الماضي لك .. وبكره لك .. وبعده لك .. انا في سهادي ومنامي .. بأسألك .. بتحبنى .. ولا الهوى .. عمره مازارك .. بتحبنى .. ولا انكتب علي القلب نارك ..» ويعود ميشيل المصري الي القاهرة حاملاً معه كاسيت الأغنية بصوت بليغ ليقوم بتوزيعها وتحديد موعد البروفات بعد اكتمال الفرقة الموسيقية وتحفظها ميادة وتغنيها في إحدى الحفلات التي تنقلها الاذاعة علي الهواء ، وأشعر من جانبى كاتب هذه السطور أن قسوة الحياة في الغربة صنعت من بليغ شاعراً كبيراً الي جانب كونه موسيقاراً مبدعاً تفوق علي نفسه كشاعر فأبدع نصاً غنائياً جميلاً تفوق فيه علي كثير من الشعراء الذين كان يتعامل معهم خصوصاً في المقطع الذي يقول «أنا بأعشق الكلمة اللي تقولها .. وبأعشق ضحكتك .. وبأعشق الليل اللي في عيونك .. وبأعشق رقتك .. وبأعشق الارض اللي عديت عليها بخطوتك» وتشاء الظروف ان تطلب احدي الجهات الفنية بسلطنة عمان حفلاً غنائياً تحييه الفنانة ميادة الحناوي وتغني فيه الالحان الناجحة التي صاغها بليغ كلمات ولحناً ويتحدد موعد الحفل ويتم الاتفاق بين بليغ وميادة علي الحضور الي سلطنة عمان وكان هذا عام (1986) ويفكر بليغ في الاغنية الثانية التي ستغنيها ميادة في الحفل ويتم الاتفاق مع ميشيل المصري علي توزيع الاغنية ويرسل شريط كاسيت الي بليغ لأجراء بروفات الحفل الذي يقام بقاعة الاحتفالات بفندق الفلج بالعاصمة مسقط متمنياً ان يجد أحد اصدقائه هناك ليخفف عنه قسوة الغربة والحنين الي الوطن وينزل من سلم الطائرة ليجدنى في انتظاره ونتعانق معا ويعرف من خلال المسئول عن الحفل انني اعمل مستشاراً اعلامياً لمصر بسلطنة عمان واصطحبته الي مقر اقامته في الفندق ولم اتركه كصديق الا بعد انتهاء الحفل الذي احيته الفنانة الكبيرة مياده ، واسمع منه رائعته الاخري التي غنتها في الحفل من تأليفه والحانه ايضاً وحققت نجاحاً مبهراً « كان يا مكان .. الحب مالي بيتنا .. ومدفينا الحنان .. زارنا الزمان .. سرق منا فرحتنا .. والراحه والامان» وينتهى الحفل لأودعه في اليوم الثاني قائلاً له لقد حققت في انتصار اكتوبر 1973 نجاحاً مبهراً كموسيقار .. وها انت الان تصقلك الغربة شاعراً مبدعاً في عام 1986 .. ويعود بليغ الي القاهرة بعد سنوات الغربة الخمس ، وبعد فترة قصيرة من الاستقرار والراحة وفرحة الاهل والاصدقاء به يشتد عليه المرض وينصحه الاطباء بالعودة الي انجلترا مرة اخري للعلاج هناك في مستشفي لندن كلينك ويفارق الحياة ويعود جثمانه الي القاهرة ليحمله اصدقاؤه وكل الفنانين والفنانات الذين تغنوا بكلماته والحانه الي مثواه الاخير .. لتكون اغنية باودعك اخر ما ابدعه في الغربة للفنانة وردة .. واخر ما غنته له قبل رحيلها « باودعك .. باودعك .. واودع الدنيا معك .. رحم الله بليغ حمدي بقدر ما قدمه من فن أصيل في حب هذا الوطن .