أعماق الإنسان لوحة من ظلال ؛ فيها الكهف القديم للإنسان الأول ، وفيها صورة البيت الذي لم يتم بناؤه على سطح القمر . هاأنا ذا أبني لك بيتاً يا كل خيالي واكتمالي وانكساري ، لكني أسمع صوتك «هيت لك . هيت لك . هيت لك» . وما إن أقترب منك حتى تهربين بعيداً خلف مالا أدري من المسافات والبلاد . أسعى إليك ، ولكنك تختبئين في أعماقي . أناديك باسم السر الذي في أعماق كل سر؛ فتظهرين خيالاً؛ ليطل في بشرتك عطر ندي كموج البحر. أمرق سابحا بين الموج لأختطفك؛ فتذوبين في القاع . أهمس محدثا إياك : لقد نزلت من صلب أبي إلى رحم أمي ، ومن رحم أمي إلى أيام عمري في عنت وعناء ، فلا أستريح إلا في صفاء عيونك ، فأسمع همسك «هيت لك» . أصحبك إلى كهف الإنسان الأول ؛ لأعرض عليك عظام الأسود والثعالب التي قتلتها من أجلك ، فتضحكين لأرى في قاع صوتك قصر امرأة العزيز وأسمع صوتك «هيت لك» ،أقول لك «لست أنا يوسف . ومن ألقوني في الجب ليسوا إخوتي ؛ إلى أن التقطني عشقك من الجب لأكون هذا الذي أمامك . وليس لي إلا قلب يغني لك ، فتردين بكلمة واحدة «هيت لك» . أحدثك حين أفتقدك ؛وفي قلبي صرخة واحدة هي «آآه» ؛ولا تتحددالصرخة بزمن لان احدا لا يسمعها غيري ؛ ولا يلحظها أحد سواي ولا يسمعها إلا أنا ، فتردين من ستار الغيب بما نطقت به امرأة العزيز «هيت لك . هيت لك »، و لا أفهم هل ذلك يعني أن لقاءنا يحتمل الحدوث ، ، أم أن صوتك الوهمي هو فوهة نهايتي . ولا أعرف هل سنذوب في بوتقة اللقاء أم أنك ستتبخرين كحلم مستحيل ، ويبقى لي ما أعرفه واقعا، ألا وهو تذكر لحظات اللقاءالتي تدفع دمائي فوارة في انتظام مختلف لركودها التقليدي ؛ وأحس بدبيب الخطر ؛ متجاوزا الحلم بإعادة ميلادي. أودع أسنان النهار التي تنهش في لحمي ، لأخوض بحراً من الشوك لعلي أصل إلى ربيعك القديم والجديد ، أجدك في قاع الكهف القديم للإنسان الأول وأجدك في البيت الصغير الذي لم يتم بناؤه على سطح القمر . وألقي ظلال نفسي فوق ظلال نفسك ، يصنع الظلان ظلاً واحداً . أبحر في لون العسل الصافي ؛ عينيك . أراني في الثانية عشرة من عمري ، وأهتف بسقوط الملك فاروق ضاحكا من تاريخ فساده ؛ النابع من تكاثر إحساسه بنقص رجولته ؛ فمضى مشتتا بين أحضان النساء . ثم تسحبني عيونك بعيداً عن وهج نجمة السينما اليهودية «كاميليا» التي احترقت بها الطائرة ، عندما ذهبت لتحصل على عمولتها من صفقة الأسلحة الفاسدة في عام 1948 ، صوتك يقول لي : لن تكون فاسدا، لأني صدقك النابع في أعماقك ، وأنت حلمي المفقود ، ولا يمكن أن أفقدك في بحر الأكاذيب. فأهمس لك :الصدق والكذب ظلان موجودان في الأعماق ، يمكن للإنسان أن يستخرج أيا منهما وأن يجعل الصدق قاربه أو الكذب قاربه الذي يمرق به بين أمواج الساعات والدقائق . وهاأنا ذا جمعت صدقي كله في كفي، فامتلأ كفي بمهر الشوق إليك؛ فجئت تقولين»هيت لك . هيت لك»، وليصبج صوتك ابنا لموسيقى لا تفرغ أبداً، كما أن آهاتي منذ الافتراق عنك لا تفرغ أبداً ، ما بين الآهة والموسيقى يدور العناق . تعرفين أنني مقسوم إلى اثنين ، رجل يدور في ساقية الليل والنهار من أجل إرواء مطالب أيامي الركيكة بدونك ، وحائر مستوحش في برية النهار وصحراء الليل استرجع رحلة ميلادك ، هل أنت «أنا مانياني» في مرارة الأرز، أم تحية كاريوكا في شباب امرأة ، أم ريتا هيوارت في سالومي ، أم أفا جاردنر في ليلة السحلية . أم نادية لطفي في «الخطايا» أم سعاد حسني في «أميرة حبي أنا» ، أم أنت « التجربة الأولى التي تراءت لي بالغواية وفتحت بوابة سحر اكتشاف كيف أصبح هذا المشتاق لك ؟ من أنت بالضبط ، قولي كلمة أخرى غير «هيت لك» فأنت تعرفين أن يوسف رأى بعد هذه الكلمة برهان الله ، فابتعد . وأنا الخائف من ذهابك ، والمشتاق إليك. ............... وتنفضح الموسيقى بيني وبينك ، فأرى في العيون دموعي وقد صارت غمامة ، وأن السحابة تمطر قطرات من وعي أرى به ضعف من حولي وادعاءهم القوة.وأسمعهم يتحدثون عن ضعفي حين دخلت التجربة الأولى ليكون الجسد من طين ونور . وأخذ كل ما في جسدي يعيد ترتيب ذاته ، وتجمعت كلي في صدر التجربة الأولى ؛فأراها دليل براءتي وجريمتي . ولا أنسى ما قالته لي التجربة الأولى: لا تبك فأنا وأنت مكتوب علينا أن يحدث لنا ما حدث . خرجت من ذلك اللقاء ثقيلاً لأجلس على المقهى مع ضحايا الشوق ، و لم أنم الليل خوفاً . ولم أنم النهار شوقاً ، وما بين الخوف والشوق كانت الذاكرة تعيد ترتيبي ، ثم سمعت صوت أمي التركية العجوز : ما مصير أجدادك في قبورهم ؟ كيف تكون من سلالة السبكي وحفيد بني تغلب ، سلالة نقية تقية ، مليئة بأولياء الله الصالحين وتتصرف كأنك هكذا ؟ لم أرد على أمي لأني كنت أسمعك تقولين يا جميلتي في خيالي : قل لوالدتك أن نصفك ملاك ونصفك حيوان لأنك إنسان . فقلت لك في خيالي : لن أقول لأمي شيئاً لأنها تعرف أنني أعرف أن والدها كاد أن يفقد عيناً من عيونه في خناقة في ملهى الطاحونة الحمراء في باريس . وهي تعرف أنني سأسافر إلى باريس لأشهد انتصار وانكسار جدي في ميدان اللهو . وسألتقي بسارتر أستاذ الفلسفة وأسأله عن أسرار هذا الجد ، فيحكي لي مغامرات الجد العجوز في مقاهي باريس . ضحكت أنت يا حبيبتي وعدت إلى كلمتك الباقية «هيت لك . هيت لك» . فأقول لك « الملك في قلبي لك . الملك في أحضاني لك» . والشوق يعانق الشوك في قلبي . وينفجر من الشوك والشوق موسيقى تحمل أنوثة من استانبول لثري في أرض الكنانة ، ولا داعي إن يقولن أحد أن عصر الجواري قد انتهى ، لأن عصر الجواري قد أعيد تشكيله في مهور مرتفعة وشقق فارهة تقتل إرادة النساء ، وحلي من ماس وذهب مصقولة يلمع في بريقها أحزان الشباب وهو يودع من يحبها لتصير جارية بالمأذون أو بغيره . البيع والشراء لم يتوقف بالنسبة للمرأة ولا بالنسبة للرجل . هناك من يشتري عبداً يؤدي له عمله ، وهناك من يشتري امرأة تخلصه من آلام أيامه ، وأنصاف الفقراء لهم صوراً متسربة عبر شاشات الكمبيوتر لنساء يستعرضن رخص الخطأ المجاني ، تسألينني يا ابنة عمري : لماذا تسافر هذه الصور عبر الفضاء ؟. فأقول : لأننا في عصر يخلط بين مهزلة عدم القدرة على إشباع الضروريات بنزيف من الخيالات ليدور ذلك وسط مهزلة الحديث عن حرية للجميع ، يحدث هذا في أمريكا ، روسيا ، فرنسا ، ألمانيا ، الرقيق يملأ أسواق الكون . نزيف من خيالات وجوع للضروريات . ............... لا أعرف هل تصل الصحف إليك أم أنك ترفضين قراءتها . ذلك أني لا أمل من البحث عن سطور أمل بين صفحات الصحف ، فيرهقني النهار ، ويخنقني الملل ، فأهرب إلى حواري معك وهو لا ينتهي، لأنه قارب النجاة من الواقع المجنون الذي يمر أمامي ، أسمعك تسألينني حين تجدين في يدي كتاب « مقدمة إبن خلدون» ، هل تحب أفكار هذا الرجل ، فأقول لك تعلمين أنه يلعب في حياتي دور الكشاف لما أراه أمامي ؛ كما أنه ناقش حق الإنسان في أن ينظم حياته وأن يبتعد عن الكذب ، وعرف أن اشتغال أهل الرأي بالتجارة مفسدة ، وعرف أن الحق يجب أن يبتعد عن التزوير ، وصرخ في العرب : أن كونوا أنفسكم فلا تتحولوا إلى لاجئين على أرضكم ، لكنهم سمعوه وضحكوا منه ساخرين . وما أن رأت أمي كتاب ابن خلدون حتى ظنت أنه كتاب سحر وأنه سيضيف إلى تمردي المزيد.فأتركها إلى حديقة الكلية لأجدك في مكتبتها ، ليشتعل النور في قلبي فيضانا من حنان جارف. فاسألك أن يهدأ فيضان ضوئك في قلبي ، و حاولت أن أخلع عيوني من المشهد لكن عيوني لم تطعني . فطال لقاء العيون ليصبح حياة مكتملة ، وحملنا قارب العشق في نهر مياهه من دموع وأمواجه من ضحك . وتراصت أفكار الفلاسفة حولنا كملائكة تغني للحب المقتول . عرفت أني سأرحل مع أفكار الفلاسفة أطلب تغيير العالم، زاهدا في تخصص في الكيمياء وهو التخصص الذي سبق وحلمت به أثناء دراستي الثانوية ، وكنت قد وعدت أبي بذلك قبل أن يموت . وقلت لأبي في خيالي : الرياضيات صعبة والشعر أجمل ومعه الموسيقى . قال أبي : لو تعمقت في قلب الشعر ستجد الموسيقى ، ولو تعمقت في قلب الموسيقى ستجد الرياضيات ، ألم تعلم أن فلاسفة العرب هم أول من اكتشفوا ذلك ؟. قلت لأبي : أعلم أن العرب الآن يكتشفون الفارق بين المرسيدس الألمانية وسيارة اليابان الأولى التويوتا ، ويستوردون عمالاً من الفلبين وأندونيسيا من أجل إذابة أيامهم المتأرجحة بين الخوف و المتعة ، ويبقى للجميع آخر النهار قدرة هائلة من الثرثرة فيما لا يفيد . ............... الثرثرة فيما لا يفيد قد تعني الانتباه والانتباه قد يعني إغضاب ماما أمريكا ، وماما أمريكا يمكن أن تذيب بقنابلها الشحم واللحم والطوب والحديد ، فبغداد مصهورة مقهورة ، كانت من معلقة في ذيل صدام حسين يضربها مرة بأوهامه ، فتضريها أمريكا بقنابلها ، وصارت الان ضحية لصراع لا يقين فيه بين الطوائف ، وتشتعل حروب الثرثرة فيما لا يفيد ، وكثير يبحثون عن غياب ، رجولة مطفأة الروح، وأنوثة تبدو ناعمة الملمس ، خشنة الروح . غليظة الحركة، والواقع سميك. فأدخل بعيون الخيال إلى عالم دراسة الأفكار الأساسية التي تحكم العالم ، رأيت كل فكرة وأصحابها يتصرفون كالثيران ، مهمتهم أن ينطح بعضهم بعضاً . وعندما شكوت للدكتور سبوك خبير تربية الأطفال والمراهقين ، وجدته خائفاً على باب غرفة الولادة حيث تضع زوجته طفلها الأول . سألت أكبر خبير معاصر في التربية عن مصيري لأني درست الأفكار المعاصرة ولم أدرس الهندسة ،قال لي : أتركني وشأني فقد قررت شركات بناء المحطات النووية أن يطفئوا ما أشعلته من شموع التحضر ، وأرادوا أن يطمسوا بيانا وقعته ضد إنارة الولاياتالمتحدة بالمحطات النووية لأن أمراضا صعبة تنتشر بسببها ، وشركات المياه الغازية دخلت في صراع مع شركات النشر كي يوقفوا توزيع مؤلفاتي فمت كمدا رغم أني عشت إلى ما فوق التسعين . هربت من لقاء د. سبوك بعيون الخيال ، لألتقي بأستاذي صلاح عبد الصبور ، الذي همس لي « لا تطلب رفعة بين الخلق بالكذب، فالكلمة تخرج من فم صاحبها لتعود له بعد ذلك لتحاسبه . حاسب على كلماتك قبل أن تنطق . ............... لم أحاسب على كلمتي التي خرجت رغم أنفي عندما رأيتك . قلت» أحبك وأنت جوهر صدقي مع الكون»، فقال كل كيانك «هيت لك . هيت لك» . لم أنكر أمامك أنني بك عرفت طعم البراءة والنضج . خفت أن احتضنك دون مأذون حتى لا أسبب لك أو لي ذلك الإحساس بطعم الحزن في نهاية التجربة . كل من درسوا علم اللقاء بين الرجل والمرأة ، يعرفون أن الرجل لا تكتمل رجولته إلا بإعلان زواجه ممن يحبها ، وكل امرأة لا تكتمل أنوثتها إلا بإعلان الزواج ممن تحبه . قد لا يعجب البعض هذا القول ، قد يقول البعض أن هذا لون من تقديس التقليد الديني . قد يرفض من أدمنوا سرقة اللذة ، متناسين أن هناك خيوط من ملح حارق يسري في الجسد بعد اللذة المسروقة ، وهناك شبكة من عسل تلون الدنيا بألوان قوس قزح في اللذة غير المسروقة . لكن قنابل يونية 1967 سقطت على الحب غير المسروق والحب المسروق وخنقت الكبرياء الخاصة لكل من يحيا ، وتساوت المعاني والأشياء ، حتى أن نجيب محفوظ قال لي في حوار يضم عشرة أسئلة في السياسة وسؤال واحد في الحب . «ممارسة الحب تحتاج إلى غياب الوعي» . ............... أن تخلع من قلبك امرأة هي موجز عمرك فذلك أصعب من القتل . وحاولت أن أخلع من أحبها قلبي ، فانخلع قلبي وبقيت كالخواء . والخواء يبحث عن الامتلاء . الحلم أشلاء ذاهبا إليك فأرى أوبرا تانهاوزر لفاجنر ، حيث يسافر العاشق إلى الحج بالقدس سائرا على أقدامه ، ليرى ظلال حنان أمه في إمرأة فيتزوجها ÷ فتصير تلك ضعفه وحيرته، فتسأله سؤالاً ساذجاً : هل تزوجتني عن عناد أم عن حب؟ فيقول بموسيقى التوبة : تزوجتك حناناً منك على ضعفي وخوفاً عليك من الكائن المتوحش في أعماقي . تقول : لا أفهم . قيقول : الحب في قمة معانيه هو أن أقوم برعايتك وتقوم برعايتي . ونحن نفعل ذلك ، لكن ضلالي يطلبني . قالت : أنا لا أفهم . قلت : وما الداعي لأن تفهمي ؟ . ............... وأدور في ساقية النهار والليل ، تولدين أمامي كخيال تتجسدين كواقع . أسمع صوتك «هيت لك.. هيت لك». توجزين كل النساء ويصير الشوق إليك عواصف، تمر خلال كلماتك نسيماً من عطور . تحرسين شعلة الضوء في أعماقي . تتجمع فيك أمومة هاجر على وليدها إسماعيل ، فتنفجر زمزم تحت قدمي الوليد . تخطو أقدامك على عرش قلبي كخطوات بلقيس على أرض عرش سليمان الملك ، فأشاهد نور العشق. وتشد زليخة قميص يوسف فأرى النور في صدرها ، وتعود حواء كضلع في صدر آدم ، ويتكرر مشهد الخلق الأول فأشهد بأن الله خلق الدنيا ، وأنك كل الدنيا وكل جزاء الآخرة ، فمعك تكون الجنة أمامي بقطوفها الدانية . فيك اكتمالي وانكساري . وهمسك يذيبني ليولدني «هيت لك .. هيت لك» وبرهان ربي في قلبي هو عشقك ، وآهة تخبئ نفسها تحت كلماتي شوقاً لك؛ فأنت ظلال أعماقي ، كل الظلال من كهف الإنسان الأول إلى البيت الذي لم يتم بناؤه بعد على سطح القمر . أدخل بظلي إلى ظلك ، يتعانق الظلان ليكونا ظلاً واحداً ، فتعزف كلماتك مع آهاتي «هيت لك . هيت لك» . الاكتمال هنا والانكسار هنا . والظل والوجد يجملان حياتي سيراً مستوحشاً في برية الليل والنهار، ما بين «هيت لك» وآهة قلبي عناق وافتراق . ............... وما تقدم من سطور هو محاولة لبلورة ما حدث لعاقل يخفي جنونه عن كل من حوله . فالجنون حق والعقل ليس إلا قناع لذلك الحق .