إذا كان رفاعة الطهطاوى هو سندباد العصر الحديث وترجمان البيان وسعد زغلول هو زعيم الأمة وعبد الله النديم أعظم الخطباء فزكريا الحجاوى عاشق تراب مصر الأصيل وفنانها الشعبى الكبير، الذى نشأ فى أسرة ذات تقاليد راسخة، ترجع أصولها إلى قبيلة الحجاوية بالعريش أما والدته فكانت شرقاوية من منيا القمح،قضى طفولته على ضفاف بحيرة المنزلة التى تحيط بمنطقة المطرية مسقط رأسه من ثلاث جهات، فجعلت منها شبه جزيرة تنفرد بسطوع ضوء القمر على وجه مياهها الهادئة وأشرعة المراكب الراسية على سطحها وصوت الصيادين الشجى الذى لم ينقطع عن الغناء أثناء عمليات الصيد ليل نهار، كل ما سلف كان له فعل السحر على روح الحجاوى ووجدانه واتجاهه نحو فنون الموسيقى والغناء والمسرح القصة القصيرة، كما تفتحت أذنه على أغانى وأوبريتات سيد درويش التى تنبعث من الجرامفون بمنزل الأسرة, مما أثرى ذائقته الموسيقية بقدرات فنان الشعب التعبيرية عن البيئة الشعبية من عمال وفلاحين. وتكتمل دائرة السحر فى سهرات المداحين المفعمة بالأدعية والتواشيح وسيرة الرسول الكريم ورواة السير الشعبية كالزناتى خليفة وعنترة، ومن بعدها والحجاوى لا يستطيع العيش بعيدا عن المداحين, فظل يتابعهم فى الدقهلية وخارجها. ويشاء القدر ويتوفى شقيقه محمد وكعادة مجتمع الصيادين الشهم يقوم الأخ الأصغر بالزواج من أرملة شقيقه، وكانت هذه السيدة تثير خياله بما ترويه من حكايات أصبحت أحد مصادر دراسته للفن الشعبى . استكمل الحجاوى تعليمه فى بورسعيد وكان ترتيبه الأول فى الشهادة الابتدائية وحصل على مكافأة الملك فؤاد الأول وقدرها40 جنيها ذهبية وساعة حائط ظل يحتفظ بها حتى مماته، ثم التحق بمدرسة الفنون والصناعات الملكية بالقاهرة متفوقا على أقرانه، وفيها عثر على ضالته فارتاد المسارح وصالات العرض، وكتب أوبريتات غنائية واسكتشات لفرقة أحمد المسيرى وتحمس للحركة الوطنية وتزعم طلاب مدرسته وقاد المظاهرات وهو لا يزال فى الصف الثانى, وقام باحتجاز ناظر المدرسة والمدرسين عندما حاولوا منعهم من التظاهر, فقام العشماوى باشا وزير المعارف بالاتصال بالحجاوى لإطلاق سراح المحتجزين ولكن صاحبنا رفض. وبعد حوار طويل اقتنع الوزير بثورة الطلاب وقدم استقالته. وواصل الحجاوى كفاحه الوطنى وأنشأ جمعية الأطواق نسبة لأطواق الغرق بهدف إعداد الدراسات لعلاج مشكلات مصر الداخلية وفضح ألاعيب القصر وفساد الملك فتم ترحيله إلى المطرية وتحديد إقامته وحرمانه من الامتحان النهائى بالمدرسة ولم يحصل على الدبلوم، ولكن النقراشى باشا لم يقبل أن يشرد الحجاوى ويضيع فأمر بتعيينه فى وظيفة بمستشفى القصر العينى وهناك شارك فى تهريب الضابط المفصول أنور السادات، وإيوائه فى منزل الأسرة فى المطرية،ولذلك عوقب الحجاوى بنقله للعمل بمستشفى الحوامدية. جنة الشوك رحبت صحيفة المصرى بمواهب الحجاوى، وأفردت له صفحة كاملة ليحررها كيفما شاء بعنوان الأنابيش رصد فيها آيات الفن الشعبى المعاصر وعبقرية سيد درويش وقدم فن القصة القصيرة من خلال عدد كبير من القصص التى لم يجمع منها إلا مجموعة واحدة و لا تزال العديد من القصص مطمورة فى مجلدات المصرى ولم تجد من يخرجها الى النور،ثم تغلق المصرى أبوابها إلى الأبد لخلاف حاد مع ثورة يوليو، وأسس الثوار صحيفة الجمهورية وعين السادات رئيس تحريرها الحجاوى مساعدا له، وأقنع جميع الخبرات الصحفية بالعمل فى الصحيفة الوليدة، وذات يوم جاءت الريح بما لا تشتهى السفن وانقلب عليه السادات بسبب وشاية رخيصة وأقاله بل ومنع دخوله إلى مبنى الجريدة،و أصيب الحجاوى بصدمة كبيرة وأصبح بلا عمل،وانفض من حوله المريدون، ولم يعد إلى الصحافة حتى وفاته فى عام 1975. ياليل ياعين شهرة الحجاوى ككاتب قصة جعلت صداقته للأدباء الكبار مثل يحيى حقى أمرا يسيرا ولأن حقى كان يعلم مدى شغف الحجاوى بالفن الشعبى فقد عينه إلى جواره فى مصلحة الفنون الشعبية التابعة لوزارة الثقافة آنذاك ومن يومها أخذ على عاتقه تحقيق الحلم فى جمع التراث الشعبى والعناية به عن طريق جولات فى ريف مصر لجلب المداحين والموسيقيين فكان عندما يسمع عن أى فنان موهوب يذهب إليه حيث يقيم. وذات صباح فوجئ يحيى حقى بصاحبنا يقتحم مكتبه ويقول له: أقدم سفراء الفن الشعبى إلى عميد الثقافة و المثقفين المصريين، وكان هؤلاء الفنانون يرتدون ملابسهم الشعبية. وعبر إشارة من الحجاوى راحوا يرددون التحية لحقى بالغناء والعزف، ومن بعدها نظم سهرات يومية للفن الشعبى أحياها نجوم الأصالة خضرة محمد خضر وأبو دراع ومحمد طه و فاطمة سرحان وكثيرون. وكان للإذاعة نصيب وافر من جهود الحجاوى مؤلفا ومخرجا'فقدم 72 ملحمة وأسطورة جمعها من بطون الريف والصحارى وأكواخ الصيادين واستوحى أخريات من بيئتها عبر مسلسلات أشهرها أيوب المصرى وسعد اليتيم وملاعيب شيحة وسداح مداح، وانتقل بفرقه الشعبية إلى جبهة القتال للترفيه عن الجنود آثناء حرب الاستنزاف كما كلفه يحيى حقى بالمساهمة فى إعداد أوبريت ياليل يا عين مع الأديب على أحمد باكثير. نهرالبنفسج لولا انشغال الحجاوى بالفن الشعبى لأصبح أشهر كاتب قصة فى مصر على حد قول يوسف إدريس، فقد جمع ونشر مجموعة واحدة مما كتب عنوانها نهر البنفسج وهى تغوص فى بحر الواقعية من خلال مشاكل الناس, وأبطالها كانوا من عمال التراحيل والشيالين والجزمجية، وسبق توفيق الحكيم فى تناول أسطورة بجماليون، ونشر كتابه الموسوعى حكاية اليهود كاشفا الشخصية اليهودية وسلوكها الهمجى والعدوانى والتخريبى والأساطير التى تؤمن بها، وذلك انطلاقا من الحكمة القائلة "لوعقلوا لفطنوا.. كيف يطرد واحد ألفا", وعلى مستوى الشعر اهتم الحجاوى بفن المربع وهو نوع من الشعر الشعبى الصعيدى يتكون من أربعة سطور ويشترط فيه-كما فى معظم الشعر الشعبى عموما- أن تكون اللفظة المنتهية به نهاية كل بيت منه تطابق فىحروفها القافية التالية وإن اختلف المعنى أحيانا, وهو ما يعرف فى شعر الفصحى الكلاسيكى بلزوم ما لا يلزم: ياخسارة الحلو من بعد الدلال يهينوه . من بعد ماكان صاحب مقدرة يهينوه. حسوا العوازل وجوله فى الوطن يهينوه..إلخ. وقد أراد الحجاوى جمع المقالات التى كتبها عن شخصيات صادفها بجانب فصول عن الطيب والمجنون والهايف والموهوم وينشرها فى كتاب يحمل عنوان الكوتشينة، ولكن القدر لم يمهله. جزاء سنمار تحالفت الظروف الصعبة فى شكل اضطهاد سياسى أقصى الحجاوى عن وزارة الثقافة فأصبح بلا عمل ثم جاءه إنذار من مصلحة التنظيم بسرعة إخلاء شقته لأنها تعتزم إنشاء طريق جديد يمر بالمنزل, فأضحى بلا مأوى فلم يجد بدا من الهجرة إلى قطر, وهناك قام بعمل مسح شامل للتراث الشعبى وأسس ودرب عدة فرق شعبية وقدم عروضا فنية رائعة وبعد وفاته عاد إلى مصر ليدفن بها وكرمته وزارة الثقافة بإنشاء متحف يحمل اسمه فى مسقط رأسه بالمطرية.