فى المنعطفات الكبيرة التى تحدث فى أى مجتمع من بلاد الله، يبدأ الباحثون والفنانون والشعراء والكتّاب العودة إلى الخلف، وذلك للبحث عن جذور صلبة قوية، ربما لتعزيز موقف الحاضر المجروح أو المذبوح أو المهزوم أو الناقص أو المثكول أو المسروق، يحدث هذا فى الأحداث الكبرى التى تهز المجتمع هزًّا عنيفًا. والذاكرة مزدحمة بالأحداث العملاقة التى أفرزت آليات البحث والباحثين والشعراء، عندما كان العدوان الثلاثى قرأنا مطولات بحثية وسردية وشعرية لاستنهاض هذا الشعب لمقاومة العدوان الثلاثى البشع، واستمعنا إلى أغنيات تلعب الدور ذاته، وشاهدنا أفلامًا ومسرحيات تحث الشعب على المشاركة فى المعركة بكل طاقاته المتنوعة. وفى أعقاب هزيمة 1967 حدثت هزات ثقافية مختلفة، هناك من لطموا وندبوا وكتبوا المراثى وعرائض الاتهام الطويلة، وهناك من صلّوا شكرًا للهزيمة، على اعتبار أنها تخصّ السلطة وحدها ولا تخص الشعب كله، وهناك من راح يبحث فى جذور الشعب فنيا وسرديا وشعريا وبحثيا، لاكتشاف العناصر التاريخية والإيجابية فى جوهر هذا الشعب الذى لا يمكن أن يستجيب لشتى أشكال الإحباط التى يبعثها المغرضون داخليا وخارجيا، وقرأنا فى ضوء ذلك محاولات البحث عن تفسيرات لما حدث، وجاءت إجابات كثيرة، منها الروايات والقصص القصيرة والشعر والمسرح والسينما، وكانت كلها تضع إجابات متقاربة، وعاد جمال الغيطانى إلى التاريخ فى مجموعته القصصية الأولى «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» عام 1969، وكتب يوسف القعيد روايته الأولى «الحداد» عام 1969، وكان سؤال الديمقراطية ينبثق من خلال الكتابين، وكتب نجيب محفوظ سلسلة قصص قصيرة كانت قريبة من هذه الإجابات، وذهب أمل دنقل كذلك لاستنطاق التاريخ بشتى الطرق. ومثلما حدث فى أعقاب 1967، حدث ذلك بعيد رحيل الزعيم جمال عبد الناصر، وراح الباحثون يكتبون، والشعراء ينشدون، والمطربون يشدون، وكان من أبرز الكتابات البحثية كتابات زكريا الحجاوى، التى عاد فيها إلى التراث الشعبى المصرى، الذى انبنت عليه الشخصية المصرية. ومن هذه الكتابات سلسلة مقالات تحت عنوان: «متتابعات فى الثقافة الشعبية»، وهى حلقات بدأ نشرها بعد رحيل الزعيم جمال عبد الناصر، وكانت كل حلقة مختصة بتفصيلة معينة فى الثقافة الشعبية، وفى 19 نوفمبر 1970 كتب حلقة عنوانها «السيرة أطول من العمر»، بدأها ب: «قال (حسن) للحاكم بأمر الله: مع السلامة.. وغنينا لحسن.. يا خولى الجنينة يا أبو على، وأنشأنا الكلام لتلميذنا وابننا (الظاهر بيبرس)، ولما انفرد بالحكم مع أقاربه المماليك غنينا: (خدك دهب، من عجب يا سمية روحى جيت أكيد العوازل كدت أنا روحى)». ويستطرد مستكملا على جانب آخر: «قال الراوى: وقفنا بالقراء عند المناظرة التاريخية بين الشيخ المهدى وجهابذة المتعلمين من المماليك الشراكسة، أيام أن كان صارى عسكر الفرنساوية مقيمًا بالبلاد المصرية.. والذى قام بالمناظرة هو بونابرطة نابليون، لأنه كان بالشيخ مهديا وبكلامه مفتونا». وهكذا يسترسل الحجاوى فى خدش جدران التاريخ، ليكشف ويكتشف النقوش والكنوز المختبئة تحت ما تراكم من عناصر تجاهل ونسيان وإخفاء واغتيال عديدة. والجدير بالذكر أن تكوين الحجاوى الوطنى العتيد هو الذى ساعده على هذا الدأب المثير، فهو كاتب القصة والشاعر والملحن والمؤرخ والمسرحى والحكّاء، وأحد عمالقة وجلّاس مقهى عبد الله الشهير فى الجيزة، وهو الأستاذ الذى تخرجت على يديه جحافل من الكتّاب والمبدعين والمثقفين، الذين كانوا يجلسون بين يديه يتعلمون، ويشربون الروح الوطنية المفعمة بالحب والعشق لهذا البلد، وكان من أبرز هؤلاء يوسف إدريس ومحمد عودة ومحمود السعدنى وعلى شلش وصلاح عبد الصبور وحلمى شعراوى وعبد الرحمن الخميسى وسمير سرحان وغيرهم، وكل هؤلاء أنصتوا له، وتعلموا منه، وبعضهم اختلفوا معه، وساروا مسارات مختلفة، لكنهم جميعًا يكنّون له كل التقدير والعرفان، ويتذكرونه بكل جميل، رغم أنه عانى من التجاهل حيّا وميتا. والجدير بالذكر أن معظم كتاباته، أو القسم الأعظم من هذه الكتابات، لم يُجمع حتى الآن فى كتب، فدراساته الخاصة بالفنون الشعبية عمومًا، التى كان ينشرها فى صحف ومجلات والتى تمثّل قيمة عليا فى مجال الدراسات الشعبية، لم تظهر للنور، وربما مسرحيته الأولى «بجماليون» ، التى نشرها فى منتصف الأربعينيات، لا يعرف كثير من الأجيال الجديدة عنها شيئًا، وأعتقد أن دراساته هذه ستكون زادًا إضافيا لمجال الثقافة الشعبية، وهو الذى أفنى حياته كلها فى هذا المجال. ومن المؤكد أن المناخ الذى ولد فيه عام 1915 فى المطرية، بلد الصيادين والفن الشعبى، هو الذى رسّخ فى وجدانه العشق الملتهب للسِّير والحكايات الشعبية، إذ كان والده يأتى بالمدّاحين، ليقيموا حفلات غنائية على سطح منزلهم، وكان الجيران يصعدون إلى أعلى منازلهم لكى تنالهم سعادة الإنصات إلى هذا المديح الشعبى الجميل. ونشأ الحجاوى فى هذا المناخ الذى يقدّر الفن الشعبى، ووجد نفسه يسعى خلف هذا الفن بكل الطرق، ويكتب يوسف الشريف فى كتابه: «زكريا الحجاوى.. موال الشجن فى عشق الوطن»، أنه كان يذهب إلى آخر الدنيا ليحقق مثلا شعبيا، أو تكملة لحكاية ناقصة، أو يستمع للحن قديم ويحاول تحقيقه واستعادته مرة أخرى على الاستماع الجديد. ومن بين مآثره العظيمة التقاؤه بصاحب المقام الرفيع يحيى حقى، وقدما معًا أوبريت «يا ليل يا عين» فى منتصف الخمسينيات، ولكن للأسف كانت وزارة الثقافة لا تسعى إلى إحياء كتاباته ومسرحياته وأوبريتاته، فقد عرضت بعد رحيله الأبدى، قدموا مسرحية «عاشق المدّاحين»التى تسرد إنجازاته ومآثره، وأطلقوا على مسرح السامر اسمه، ولكن ما عدا ذلك فحدِّث ولا حرج. وأعتقد، ونحن نقبل على مئوية ميلاده فى عام 2015، أنه من الواجب الذى يصل إلى مستوى الضرورة استعادة تراثه الفنى والبحثى والفكرى، ليكون بين يدى الأجيال الجديدة، حتى يتعرفوا على واحد من الآباء العظام المخلصين.