كثيراً ما ووجه كاتب هذه السطور بسؤال: لماذا تهتم بالتراث القبطى وأنت مسلم بدلا من أن تهتم بالتراث الإسلامى مثلاً؟ و لماذا يظهر المسيحيون أمام المسلمين وكأنهم ينتمون للحضارة الغربية أكثر منهم للشرقية العربية؟ فكثير من الأسماء المسيحية تبدو غريبة على الثقافة العربية, كما أن تراثهم الدينى ولغته تبدو غريبة ظاهرياً على العربية. ولمحاولة الوقوف على حقيقة هذه المسألة المعقدة يجب علينا مبدئياً استيضاح بعض النقاط. بداية يمكن تقسيم العصر القبطى فى مصر إلى مرحلتين أساسيتين: الأولى: منذ دخول المسيحية فى القرن الأول الميلادى حتى الفتح الإسلامى فى القرن السابع الميلادى على يد عمرو بن العاص, مع ملاحظة أنه لم يكن باباوات الإسكندرية قبل الإسلام بالذات مجرد زعماء دينيين لكن كانوا قادة وطنيين لعبوا دوراً سياسياً مهما. ومن خصائص هذه الفترة أنها: نقلت عن التراث المصرى القديم الموروث باعتبارها معبراً وجسراً بين ثقافتين: وافدة حديثة وقديمة موروثة، وأبدعت وأضافت إلى الثقافة الموروثة ولم تستنسخها كما هى دون وعى. كما تأثرت هذه المرحلة بالثقافات الوافدة كاليونانية والبيزنطية. ولكنها حافظت على الهوية والشخصية المصرية التى استمر كثير منها حتى اليوم, كالرهبنة القبطية ، والموسيقى القبطية التى عاشت فى الكنائس والأديرة ، واللغة القبطية التى استمرت لليوم فى الكنائس ، بالإضافة للثقافة الشعبية المصرية كالموالد والاحتفالات الدينية. أما المرحلة الثانية فى الثقافة القبطية: فهى منذ الفتح الإسلامى حتى اليوم: ومن أهم خصائصها امتزاج التراث القبطى المصرى الموروث بالوافد العربى الإسلامى. وهناك العديد من النماذج على هذا الخليط الثقافى الفريد نكتفى منها بنموذج كاشف: العامية المصرية, التى هى خليط فريد بين القبطية الموروثة (قواعدياً ولفظياً) مع العربية الوافدة: فالقبطية مثلاً لا تعرف الحروف اللسانية كالذال والثاء, لهذا أخضعت العامية المصرية اللغة العربية الوافدة للسان القبطي, فأصبحت حروف مثل «ذ» و«ث» تنطق «د» و «ت».. فصار «الثعبان» ينطق «تعبان» و «الذيل» ينطق «ديل».. كما يجب أن نلفت لأمر مهم جداً وهو عدم ارتباط التراث بالعقيدة الدينية.. فاللغة والحضارة العربية أسبق من الدين الإسلامي, والإسلام والقرآن الكريم قد استخدم العربية فأكسبها قدسيتها وخلودها. ونفس الشىء بالنسبة للمسيحية فى مصر. فهى لم تبتكر اللغة القبطية فى مصر (التى ظهرت منذ القرن الثالث قبل ميلاد المسيح وكتبت بها نصوص دنيوية ووثنية).. لكن المسيحية أيضاً استخدمتها وأكسبتها قدسيتها كلغة الكتاب المقدس والنصوص الدينية.. إنجازات التراث المسيحي: يبدو إن الناتج الحضارى للمسيحيين العرب عموماً قبل الإسلام ثابت منذ القرن الرابع الميلادى. فأقدم الكتابات العربية الشمالية مثلاً عثر عليها على أبواب الكنائس فى حلب وحران بسوريا وترجع للقرن الرابع الميلادى. كما تضم موسوعة جورج جراف التى نشرها بالألمانية أسماء نحو 10 آلاف مخطوطة من الأدب العربى المسيحى وحده، هذا بخلاف الإنتاج العلمى، واللاهوتى للمسيحيين العرب. كما أن انتشار الثقافة العربية بين المسيحيين بعد الفتوحات الإسلامية للوطن العربى وحدت مسيحيى المنطقة بعد التشتت, كما يذكر الأب الدكتور سمير خليل اليسوعى رائد دراسات التراث العربى المسيحى. فالمسيحيون العرب قبل الإسلام كانوا يتكلمون ويصلون بلغات شتى: قبطى وسريانى وآشورى وكلدانى ومارونى ويونانى ,لكن بعد انتشار العربية تكلموا وصلوا وتفاهموا بلغة واحدة هى العربية. الأقباط و إنجازات الحضارة العربية بعد الإسلام: ومن إنجازات التراث القبطى المعماري: أن المنبر الإسلامى فى المساجد قد تأثر فى الأساس بإنبل الكنائس، وكذلك المئذنة هى فى الأصل منارة الكنيسة ذات الأجراس، وكذلك تأثر تخطيط المساجد (صحن أوسط يحيط به أروقة أو إيوانات وتتقدمه ظلة المحراب) يطابق ما يعرف بالتخطيط البازيليكى للكنائس. الصناعات: كورق البردى والنسيج، كما اختص الأقباط واشتهروا بصناعة الكسوة الشريفة منذ عصر الفاطميين، كما أن اللواء القبطى رزق الفسخانى كان مكلفاً بقيادة آخر موكب للمحمل النبوى من مصر للكسوة الشريفة عام 1963, وسبقه فى هذا الضابط القبطى نجيب مليكة. كما اشتهر الأقباط فى العصر الإسلامى بتمكنهم فى مجالات صناعة الأخشاب، والمعادن. المدن العربية: شارك فى بنائها الأقباط, (كالمساجد والعمارة الإسلامية: مسجد بن طولون إشراف وتصميم المهندس سعيد بن كاتب)، وهم غالبية عمال عمائر الفسطاط أول عاصمة إسلامية فى مصر. يذكر البلاذرى أن الخليفة الأموى الوليد بن عبد الملك طلب من عامله على المدينة عمر بن عبد العزيز إعادة بناء المسجد النبوى وأن يبعث إليه الأموال ومواد البناء و 80 صانعاً من القبط المصريين لمهارتهم, كما أرسل والى مصر قرة بن شريك أقباطا لبناء مسجد دمشق. إذن التراث القبطى مكون أساسى من التراث المصرى، فهو تراث مشترك بين المسلمين والمسيحيين , وإهماله يؤدى لفقدان روح التسامح فالمصريون جميعا يتفقون ويشتركون فى غالبية مكونات الوطن والهوية: فالعرق واحد ، والثقافة المشتركة واحدة، والأرض واحدة يعيش عليها الجميع, ولهذا هناك ضرورة تقديم التراث القبطى لأهلنا فى الإعلام والمدارس والجامعات باعتباره جزءا من التراث الوطنى المصرى.ولابد من التركيز على المشتركات الثقافية المصرية, كالشهور القبطية والأمثال الشعبية والاحتفالات الدينية والموالد وغيرها مما يجمع كل المصريين.واستحداث أقسام لدراسة القبطيات فى الجامعات المصرية على غرار ما تقوم به مكتبة الإسكندرية .وبهذا فقط يكون التراث وسيلة ناجعة للتصالح مع الذات فيما بين المصريين، لمواجهة التطرف والتعصب المقيت، ونزع فتيل الاحتقان الطائفى البغيض الذى يهدد مستقبلنا.