يشيع بين الغالبية وخاصة عند المثقفين والباحثين أنه لا توجد أدني علاقة بين التراث المصري القبطي عموما والحضارة والثقافة العربية.. بل علي العكس يسود الاعتقاد أن بينهما تنافرا وتناقضا يصل لدرجة الصراع والتناحر!!. والأدهي من ذلك هو ما ترتب علي ذلك من ربط عقائدي تخطي حدود التناقض الثقافي.. حيث أنه صار راسخا في الإدراك الجمعي.. أنه عليك كمصري أن تحسم أمرك بين خيارين متناقضين.. إما أن تكون مسلما مخلصا للثقافة العربية أو أن تكون مسيحيا( أو لادينيا) منتميا وفخورا بالثقافة المصرية القبطية..!! لذا يصبح محاولة فض هذا الاشتباك الوهمي المصطنع بين كل من التراث القبطي والحضارة والثقافة العربية واجبا وضرورة.. لحاضر ومستقبل هذا الوطن الذي يعيش حالة مخاض ثقافي حضاري. لذلك هناك العديد من الأسئلة التي تطرح نفسها هنا وهي: كثيرا ما واجهت شخصيا أسئلة استنكارية من نوعية: لماذا تهتم بالتراث القبطي وأنت مسلم بدلا من أن تهتم بالتراث الإسلامي مثلا؟. كما كان البعض يستغرب: لماذا يظهر الأقباط والمسيحيون عموما أمام المسلمين وكأنهم ينتمون للحضارة الغربية أكثر منهم للشرقية العربية؟ فكثير من الأسماء المسيحية تبدو غريبة علي الثقافة العربية.. كما أن تراثهم الديني ولغته تبدو غريبة ظاهريا علي العربية. ولمحاولة الوقوف علي حقيقة هذه المسألة المعقدة وفك الالتباس والاشتباك بين أطرافها المتداخلة يجب علينا مبدئيا استيضاح بعض النقاط كمدخل حيوي للموضوع.. يمكن تقسيم العصر القبطي في مصر بالطبع إلي مرحلتين أساسيتين: الأولي: منذ دخول المسيحية في القرن الأول الميلادي حتي الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي علي يد عمرو بن العاص.. مع ملاحظة أنه لم يكن باباوات الإسكندرية قبل الإسلام بالذات مجرد زعماء دينيين لكن كانوا قادة وطنيين لعبوا دورا سياسيا مهما. ومن خصائص هذه الفترة أنها: نقلت عن التراث المصري القديم الموروث باعتبارها معبرا وجسرا بين ثقافتين.. وافدة حديثة وقديمة موروثة. أبدعت وأضافت إلي الثقافة الموروثة ولم تستنسخها كما هي بدون وعي. تأثرت هذه المرحلة بالثقافات الوافدة كاليونانية والبيزنطية وغيرهما. حافظت علي الهوية والشخصية المصرية والتي استمر كثير منها حتي اليوم كالرهبنة القبطية, وكذلك الموسيقي القبطية التي عاشت في الكنائس والأديرة, وكذلك اللغة القبطية التي استمرت لليوم في الكنائس, بالإضافة للثقافة الشعبية المصرية كالموالد والاحتفالات الدينية.. والعديد غيرها من الموروثات. أما المرحلة الثانية في الثقافة القبطية: فهي منذ الفتح الإسلامي وحتي اليوم: ومن أهم خصائصها امتزاج التراث القبطي المصري الموروث بالوافد العربي الإسلامي.. وهناك بالطبع العديد من النماذج علي هذا الخليط الثقافي الفريد نكتفي منها بنموذج كاشف: إن العامية المصرية التي هي خليط فريد بين القبطية الموروثة( قواعديا ولفظيا) مع العربية الوافدة: فالقبطية مثلا لا تعرف الحروف اللسانية كالذال والثاء.. لهذا أخضعت العامية المصرية اللغة العربية الوافدة للسان القبطي فأصبحت حروف مثل ذ وث تنطق د وت.. فصار الثعبان ينطق تعبان والذيل ينطق ديل.. وهكذا.. وكذلك قواعديا والأمثلة عديدة. كما يجب أن نلفت لأمر مهم جدا وهو عدم ارتباط التراث بالعقيدة الدينية.. بمعني أن التراث لا دين ولا عقيدة له.. فاللغة والحضارة العربية هي أسبق بالقطع عن الدين الإسلامي.. والإسلام والقرآن الكريم قد استخدم العربية ولم يخترعها.. فأكسبها قدسيتها وخلودها... ونفس الشيء بالنسبة للمسيحية في مصر.. فهي لم تبتكر اللغة القبطية في مصر( والتي ظهرت منذ القرن الثالث قبل ميلاد المسيح وكتبت بها نصوص دنيوية ووثنية).. لكن المسيحية أيضا استخدمتها وأكسبتها قدسيتها لكتابتها الكتاب المقدس والنصوص الدينية كالليتورجيتات وغيرها. إذن فباختصار.. إن الموقف السلبي لبعض المسلمين من التراث القبطي خطأ ثقافي وتاريخي, تماما كما أن الموقف السلبي لبعض المسيحيين من التراث العربي خطأ لنفس الأسباب. إنجازات التراث المسيحي: إن الناتج الحضاري للمسيحيين العرب عموما قبل الإسلام ثابت منذ القرن الرابع الميلادي.. فأقدم الكتابات العربية الشمالية مثلا عثر عليها علي أبواب الكنائس في حلب وحران بسوريا وترجع للقرن الرابع الميلادي. كما تضم موسوعة جورج جراف التي نشرها بالألمانية أسماء نحو10 آلاف مخطوطة من الأدب العربي المسيحي وحده, هذا بخلاف الإنتاج العلمي, واللاهوتي للمسيحيين العرب.. كما أن انتشار الثقافة العربية بين المسيحيين بعد الفتوحات الإسلامية للوطن العربي وحدت مسيحيي المنطقة بعد التشتت كما يذكر الأب الدكتور سمير خليل اليسوعي رائد دراسات التراث العربي المسيحي.. فالمسيحيون العرب قبل الإسلام كانوا يتكلمون ويصلون بلغات شتي.. قبطي وسرياني وآشوري وكلداني وماروني ويوناني.. لكن بعد انتشار العربية تكلموا وصلوا وتفاهموا بلغة واحدة هي العربية. الأقباط ومشاركتهم في إنجازات الحضارة العربية بعد الإسلام: ومن إنجازات التراث القبطي المعماري: أن المنبر الإسلامي في المساجد قد تأثر في الأساس بإنبل الكنائس, وكذلك المئذنة هي في الأصل منارة الكنيسة ذات الأجراس, والمحراب يعادل الحنية أو التجويف في الكنيسة, وكذلك تأثر تخطيط المساجد( صحن أوسط يحيط به أروقة أو إيوانات وتتقدمه ظلة المحراب) يطابق ما يعرف بالتخطيط البازيليكي للكنائس. الصناعات: كورق البردي والنسيج..اختص الأقباط واشتهروا بصناعة الكسوة الشريفة منذ عصر الفاطميين, كما أن اللواء القبطي رزق الفسخاني كان مكلفا بقيادة آخر موكب للمحمل النبوي من مصر للكسوة الشريفة عام1963 وسبقه في هذا الضابط القبطي نجيب مليكة.. كما اشتهر الأقباط في العصر الإسلامي بتمكنهم في مجالات صناعة الأخشاب, والمعادن, وشواهد القبور وغيرها. المدن العربية: شارك في بنائها الأقباط.. سواء في مصر( كالمساجد والعمارة الإسلامية: مسجد بن طولون إشراف وتصميم المهندس القبطي سعيد بن كاتب), وكانوا هم غالبية عمال عمائر مدينة الفسطاط أول عاصمة إسلامية في مصر.. أو خارج مصر: يذكر البلاذري:أن الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك طلب من عامله علي المدينة عمر بن عبد العزيز إعادة بناء المسجد النبوي وأن يبعث إليه الأموال ومواد البناء و80 صانعا من القبط المصريين لمهارتهم.. كما أرسل والي مصر قرة بن شريك عمالا أقباطا لبناء مسجد دمشق. وباختصار نقول إذن أن توثيق وتأكيد العلاقة بين التراث القبطي والحضارة العربية يؤدي إلي: إثراء للفكر المسيحي وتراثه العريق المجهول بالعربية. إغناء التراث العربي المشترك بين المسلمين والمسيحيين المادي والشفاهي. أما قطيعة المسيحيين مع الثقافة العربية فلن يكون مجرد تجاهل للإسلام لكنه في الواقع: قطيعة مع تراث لاهوتي قبطي غزير مكتوب بالعربية يعتبر فقدانا للشخصية القبطية. قطيعة مع العيش المشترك مع المسلمين استمر14 قرنا بما يمثل ثلثي تاريخ المسيحية في مصر( استمرت فقط نحو6 قرون قبل الإسلام). انسلاخ من سلاح المواجهة مع الأعداء كالصليبيين والتتريك والصهيونية عبر التاريخ وهي العروبة الثقافية.. مثل تفسيرات البابا شنودة التي تنفي مفهوم شعب الله المختار وأرض الميعاد وترفع الغطاء الديني عن المزاعم الصهيونية. تخلي عن إسهامات علمية وأدبية مسيحية ضخمة في بناء الحضارة العربية. إن التراث المسيحي عموما والقبطي خصوصا, تاريخيا وأثريا لا يتناقض ولا يتعارض مع التراث العربي الإسلامي.. بل علي العكس تماما.. ويجب أن يجتهد الإعلام ومناهج التعليم في إزالة هذا الالتباس المدمر والمقصود والذي يزرع في النفوس عداء مصطنعا ومواجهة واختلافا وهميا.. يجب كشف زيفه من أجل حاضر أجمل ومستقبل أروع بلا جهل أو تعصب. د. لؤي محمود سعيد مدير مركز الدراسات القبطية بمكتبة الإسكندرية