ذلك الرجل العذب لابد أن يأتي بشعر مثله. وأنا نهلت عذوبة لا ينكرها إلا قارئ جاحد, راحلا إلي منبع الشعر مع فاروق شوشة, في ديوانه الجديد الرحيل إلي منبع النهر. وهو في كل قصائد الديوان يرحل إلي منبع الشعر, ولكن لا يصل شاعر إلي النبع في كل مرة! لذلك تخيرت من بين قصائد كثيرة جميلة, العرائس التي رأيتها الأجمل, لكي أزفها إلي عينيك سيدي القارئ, الذي لولاه ما كنت ولا كان شاعري, أو أي شاعر أو ناثر. وهي ثلاث قصائد واحدة في أول الديوان, وواحدة في المنتصف, وثالثة قرب آخره. نبدأ بمفتتح الديوان: الكلمات المؤثرة في صدقها, التي تدخل القلب لأنها تخرج من القلب. كلمات كلها حب وولاء للشعر: المعني العريض الذي منح فاروق شوشة, كما منح غيره من العاشقين, إنسانيته; الشعر الذي أحبه وأخلص له واستقي منه شعورا بالانتماء لشيء عظيم أكبر من كل الذوات الضيقة, شيء يرتقي حبه بالإنسان بقدر ما يتدني به حبه لذاته, حين تكون حبه الأوحد يقول فاروق شوشة: مولاي الشعر اغفر لي أني قد جئت بلا استئذان ووقفت ببابك/ أدخل أم لا أدخل؟ ...................... يبهرني ضوؤك تغشي عيناي فلا تريان هذا الوجد الصوفي, حين تغيم المرئيات من فرط النشوة, نصدقه عند فاروق شوشة, لأن الكلمات تأمرنا بهذا, وأيضا لأننا جميعا نعرف تاريخ شوشة, الذي أعطي الشعر عمره, ليس فحسب كشاعر بل كإذاعي أشاع الشعر العربي الكلاسيكي علي الأثير وعلم الناس حبه, ودأب علي هذا بعشق وتفان عشرات السنين. كذلك حرص علي تقديم زملائه من الشعراء, من جيله أو الأجيال التالية, إلي مشاهد التليفزيون المصري في برنامجه أمسية ثقافية. وهو يغضب ممن يتعاملون مع الشعر من منظور ذواتهم الضيق, فيقول: الشعر الباذخ أكبر من كل الشعراء وأعظم من لغة ترتج مهمشة أبقي من حشرجة في الصدر/ ولفح تذكيه النيران وصرير يقتله البرد ويهوي في الطرقات/ ويزحف في الأوكار/ ويقعي في ظل الجدران قل للشعراء أفيقوا... نأتي لواسطة عقد الديوان: القصيدة التي منحته اسمه, أي قصيدة الرحيل إلي منبع النهر, لنجد دليلا جديدا علي قدرة الصدق- خصوصا إذا دعمته البساطة واجتنب المبالغة- قدرته علي اجتياز كل السدود النفسية التي يمكن أن يضعها القلب في مواجهة الآخرين. .. وحين أجاوز في سخرياتي المدي وندرك أن جدارا سميكا تكاثف ما بيننا أراك تباعد, تقلع عني/ ويربد وجهك أشفق ساعتها من فراق تحلق غربانه فوقنا/ ومن زمن قادم لست فيه فيفجؤني أن نهر الوداد يعود إلي صفوه حين تصفو سريعا/ وترثي لحالي/ في جده بك أو لهوه وها أنت ترحل عني إلي منبع النهر تتركني تائها في المصب أحاور موج النهاية وأسأل عنك.. كما عشت تسأل عني. هذه العلاقة الإنسانية العميقة, وهذا الصديق الذي كان يهوي النفاذ إلي أصل الأشياء, فيقابله صديقه الشاعر بالسخريات, وها هو يرحل إلي منبع النهر هذه المرة ولا يعود.. وهي تجربة إنسانية عبر عنها الشاعر بمنتهي الصراحة والبساطة, بلغة مباشرة ليس فيها القدر المعتاد من المجاز, اللهم إلا الرمز المركزي الذي يعبر عنه العنوان. مسك الختام من وجهة نظري هو مقطع من قصيدة مركبة تتكون من خمس قصائد فرعية عناوينها: أ- ب- ج- د- ه, ويجمعها عنوان القصيدة الأم: صور ريفية. المقطع الذي أتحدث عنه هو القصيدة الفرعية( ج), ويمكن أن نسميها نحن عصفور النخل العالي لغرض التوضيح والتحديد. القصيدة تتميز بمذاق شعبي فولكلوري نادر عند فاروق شوشة وفي شعر الفصحي عموما. وهي تذكرني إلي حد كبير, برغم الاختلاف, بموال الطير في التراث الشعبي المصري الذي يبدأ بهذا البيت: طلعت فوق السطوح أنده علي طيري ... والطير في القصيدتين كناية عن محبوب ما, ولكن طبيعة الطير نفسه تختلف في كل منهما.. فطير الموال غادر جحود لا يجدي معه إلا المعاملة بالمثل, بينما عصفور شوشة نزق لعوب لكنه بريء. ولنترك فاروق شوشة يتحدث عنه: هبني طرت وراءك يا عصفور النخل العالي مخترقا حيطان فضائك أبحث عنك وأمعن/ كي أتقافز مثلك لكني أبدا لا ألحق بك! هي طردية إذن, من نوع ما, والعصفور فريسة من نوع ما أيضا, و إن كان ليس غرا, ومطاردة ليس في أوج القدرة. إنه فريسة ماكرة( دون أن يفقده هذا البراءة), وستري في المقطع التالي كيف أن الشاعر والعصفور يتبادلان دور القانص والفريسة. يفجؤني أنك تدنو/ تدنو جدا تقترب وتصبح ملك يميني, لو حاولت تغريني أن ألمس رأسك لكنك تعرف كيف تطير وتفلت.. نوع سماوي من لعبة القط والفأر, وكلا الشاعر والعصفور يتربص بالآخر. ولنكن صرحاء, ألسنا نلمس تحت قناع الرمز الوجه الناعم الذي ينتمي لمخلوق ناعم لا يستقر علي حال, لا يريح ولا يرتاح, أقصد اللعبة الأبدية بين الرجل و المرأة؟ أيا كان المعني والتفسير, فإننا نستطيع أن نستمتع بالقصيدة باتخاذ مجازها حقيقة واقعة وتركها محتفظة بكل ثراء الإيحاء دون التصريح الذي يصل إلي درجة التشريح والذي يقتل نبض الحياة ودفئها في القصيدة. لنتابع المشهد. وكأنك تقرأ ما أنويه. وتدرك أني منتظر لحظة سهو منك/ وغفلة عين لكن هيهات/ رادارك في عينيك سريع اللفتة والإيماء ردة فعلك أسرع مني, آلاف المرات والكون, جميع الكون, أمامك محض نداءات تسمعها أنت/ ومحض فضاء ختاما أنا من المؤمنين بمقولة الكتاب يبين من عنوانه.. وحين قرأت علي الغلاف الرحيل إلي منبع النهر قلت هذا الديوان فيه شعر. الكتاب صادر عن الدار المصرية اللبنانية.