عندما كان الشاعر الأمريكى مارك ستراند ، الذى رحل قبل أيام ، يسأل عن هويته – بالإشارة لانتماء والديه للديانة اليهودية- كان دائما ما يقول إنه لا يعتبر نفسه يهوديا، فهو لا يعتنق الدين – وربما من هنا جاءت نظرته الإنسانية المحايدة لإسرائيل التى كان يراها ظالمة ومعتدية على الفلسطينيين، كما أشار فى أكثر من حوار صحفى . فالهوية عند ستراند -الذى عاش فوق الثمانين عاما ،حتى أصابه السأم فاعتزل الكتابة قبل بضعة أعوام –هى الشعر, وما يكتبه هو هويته الحقيقية “.. عندما أتوقف عن الكتابة لا أشعر أننى حى ، فهويتى وكينونتى مرتبطة بما أكتب بصورة لا انفصام فيها. لكننى أتوقف عن الكتابة إذا ما شعرت أن ما أكتبه رديء. فأنا أحب نفسى لكنى أحب الشعر بقدر ما أحب نفسى وأكثر.” ولد مارك ستراند فى مقاطعة كويبك فى كندا عام 1934، لأب يعمل بالتجارة وأم معلمة ,وانتقل مع أسرته فى سنوات الطفولة إلى فيلادلفيا الأمريكية فكان "ذلك الطفل الذى يتحدث الإنجليزية بلكنة فرنسية ثقيلة"، وكان لذلك محط سخرية رفاق المدرسة.. لكن ستراند سرعان ما تعلم الإنجليزية، قبل أن ينتقل مع عمل والده إلى كوبا ثم كولومبيا وبيرو والمكسيك. يقول ستراند :” كنت أتنقل كثيرا بين المدارس ، حتى إننى لم أعرف مكانى وسط الأماكن الكثيرة التى ارتحلت بينها. لكننى كنت محظوظا بقضاء عطلات الصيف فى خليج سانت مارجريت بالقرب من هاليفاكس، فصارت تلك البقعة وطنى الذى حملته داخلى فى ترحالى دائما.. ذلك البحر ..أشجار الصنوبر تلك على الشاطئ..الصباحات الباردة...” ورغم أنه بدأ كتابة الشعر فى مرحلة الدراسة الثانوية ، إلا أنه التحق بكلية الفنون والعمارة بجامعة يال الأمريكية حيث كان ينتوى أن يصبح رساما. لكنه أثناء دراسة الرسم أصبح قارئا نهما للشاعر والاس ستيفنز، ليجد نفسه يتحول إلى دراسة متعمقة فى اللغة الإنجليزية ويبدأ كتابة الشعر الذى نال إعجاب أساتذته. وفى عام 1960 حصل على منحة فولبرايت إلى إيطاليا لدراسة شعر القرن التاسع عشر فى إيطاليا. بعدها بدأت قصائده تعرف طريقها إلى صحيفة نيويورك تايمز ، وشعر بأن عليه أن ينذر نفسه للشعر.. ديوانه الأول "النوم بعين مفتوحة" ، صدر فى عام 1964، وتلاه ديوان "أسباب للحركة" فى عام 1968. عمل ستراند فى التدريس الجامعي, ونشر إحدى عشرة مجموعة شعرية من أهمها " عاصفة المرء الثلجية " التى فازت بجائزة البوليتزر للشعر عام 1999. ومن أهم كتبه التى اعتبرت صعبة التصنيف كتاب "الأثر" الذى أوشك أن يحصل فى السبعينيات على جائزة بوليتزر, لولا أن رئيس لجنة التحكيم اعترض لأنه مكتوب نثرا. وصدرت أعماله الكاملة لتضم كتبه من عام 1968 إلى 2012.. وقد اختير أميرا لشعراء الولاياتالمتحدة فى التسعينيات ، وعمل مترجما ومستشارا شعريا لمكتبة الكونجرس ورئيسا لأكاديمية الشعراء الأمريكيين، وبقى استاذا للأدب الإنجليزى والمقارن بجامعة كولومبيا حتى وفاته. وصفه أوكتافيو باث بأنه مسحور بالغياب، وظل على مدى مسيرته الشعرية يعالج ويوسع مفهوم الفقد والخوف والغياب والصمت، صمت العدم والفراغ. فى قصائده ألفة غامضة, رغم أن قصائده تميل إلى الغرائبية، كما يصفه بعض النقاد،الذين يؤكدون تأثره بسرياليى أمريكا الجنوبية. يفضل ستراند كتابة الشعر بخط يده ويؤجل الطباعة على الكمبيوتر طويلا لأنه وهو يخط على الورق يشعر وكأنه يقرأ أثناء الكتابة, يستطيع أن يسمع ما يكتبه،كما أن طباعة القصيدة على الآلة الكاتبة يجعلها تبدو منتهية .. وهو لا يريد لقصيدة أن تبدو وكأنها فى صورتها النهائية قبل أن تكون كذلك.