التكفيريون عن يميننا، والملحدون عن شمالنا، هكذا أصبحت حالنا، فنحن بين شقى رحى نبحث عن مخرج آمن من فخ الاثنين فى وقت عصيب تمر به مصر، وبالتأكيد سيبدو الجمع بين النقيضين غريبا وشاذا فى نظر الكثيرين، لكن واقعيا وعمليا يوجد قاسم مشترك بينهما يتمثل فى جانبين هما، الشطط، وتعمد تضخيم خطرهما. فالتكفيرى والملحد وصلا للحد الأقصى من الشطط وغياب العقل، فالأول فضل الغلو الشديد فى تفسير وفهم النصوص الدينية، مما جعله يخلع عباءة الدين عن غير المؤمنين بفكر جماعته وأميره، أو من يتجاسر على توجيه أدنى انتقاد لتصرفاته وجرائمه، والمثال الحى يتجسد فى تنظيم داعش الإرهابى، الذى اختزل الإسلام الحنيف فى قطع الرءوس، واصدار الأحكام القاطعة بايمان هذا وكفر هذا، ومنح صكوك الايمان ودخول الجنة والنار، والسعى لهدم دول ومجتمعات تحت لافتة تطبيق شرع الله، وإقامة دولة الخلافة. والثانى قرر إراحة نفسه بالتخفف من أعباء وقيود الالتزام الدينى، واحترام عادات وتقاليد ومحاذير مجتمعه، ويقوم بذلك بدعوى حرية الاعتقاد والتعبير وحقوق الانسان التى تستغل كوسيلة للهروب من الوطن الذى يحاربه، ويحرمه من ممارسة حقه الطبيعى فى الكفر بوجود إله، فتلك هى الصورة المعروضة على المسئولين الأجانب ، ويشدد عليها حينما يذهب لسفارة غربية، طلبا لحق اللجوء السياسى بزعم تعرضه للاضطهاد. ومبعث القلق ليس فى وجود التكفيرى والملحد فى حد ذاته، لكن فى تضخيم المجتمع ووسائل إعلامه من خطرهما، ووضعهما فى حيز أكبر من حجمهما، وقدرتهما الحقيقية على التأثير. وحتى لا تستشف من العبارة السالفة نبرة تهوين أو استخفاف بظاهرتى التكفير والإلحاد، أوضح منذ البداية أن التكفير والإلحاد كانا حاضرين على مر العصور والأزمنة بأشكال وصور شتى ولم يتمكنا من خلخلة وزعزعة الركائز الدينية والاجتماعية للمجتمعات الإسلامية والعربية، فعمر الأفكار الشاذة قصير ولا يتبقى منها سوى ما سببته من إزعاج وخسائر عند ظهورها، واستخلاص العبر والدروس المفيدة منها. لكننا فى الزمن الراهن لم نتعلم هذا الدرس من التاريخ القديم، فكم يبلغ عدد التكفيريين فى بلادنا؟ ادرك أنه لا يوجد احصاء رسمى، لكن عددهم دون شك لا يتجاوز المئات، ولدى وضعهم فى كفة وبقية المصريين فى الكفة الأخرى، فمعلوم لمن ستكون الغلبة ليس بمعيار التفوق العددى بحكم أنهم يشكلون الأغلبية، وإنما بمنطق أن هذا الفكر يعد دخيلا على بلدنا ولن تكتب له الحياة مهما حاول، ويفتقد البيئة الصالحة لنموه وانتشاره، ولا يغرنك ما تقوم به هذه العناصر من عمليات إرهابية سقط فيها حتى الآن مئات الشهداء من الشرطة والجيش، فتلك العمليات تتم بأسلوب البرغوث، نعم البرغوث الذى لا تستطيع أن تراه من ضآلة حجمه، لكنه قادر على ازعاجك لبعض الوقت بقرصه إياك فى مناطق مختلفة من جسمك، وما أن تمسكه يموت فى التو واللحظة . فالمجتمع المصرى لا يجوز أن يتخلى عن ثقته فى نفسه فى مواجهة ظواهر عابرة، إذ لا يصح أن يهتز أمام حفنة من المهووسين الذين يعانون من اختلالات وعقد نفسية واجتماعية تتجلى فى التحاقهم بصفوف داعش وبيت المقدس وغيرهما من التنظيمات الإرهابية، أو جماعات الالحاد، ولابد من التعامل مع كل ظاهرة بحجمها الطبيعى وليس المصطنع. فمثلا يظن البعض أن الإلحاد يستشرى ويتوغل، وعندما تطالع عشرات الموضوعات المنشورة فى الصحافة الخاصة على وجه التحديد تعتقد بأننا بانتظار طوفان الملحدين الذى سيجرفنا معه، والفرق شاسع بين التنبه والتحذير والتهويل، فما تقوم به وسائل الإعلام يندرج تحت بند التهويل، والسبب يكمن فى الرغبة فى اجتذاب مزيد من القراء والمشاهدين لبرامج التوك شو المسائية، وأيضا الانخداع بما ينشر ويبث عبر وسائل التواصل الاجتماعى كالفيسبوك وتويتر. فنظرا لأن التكفيرى والملحد غير قادر على المواجهة المباشرة مع الناس، ويدعو لأفكاره ومعتقداته فى حيز ضيق وسط اعداد قليلة داخل البيوت والمساجد، فإنه يهرع لمواقع التواصل الاجتماعى التى تضمن له الذيوع والانتشار بأقل جهد وتكلفة تكاد لا تذكر، والمؤسف أن هناك من تنطلى عليه الحيلة، والكلام المعسول فينخدع ويؤمن بها، فداعش تجند الشباب من خلالها، وترسم لهم صورة وردية عن العيش فى دولة الخليفة أبو بكر البغدادى، وأن القتل والترويع يتم استنادا لمنهج شرعى من الكتاب والسنة، والملحدون يتبعون ذات الطريقة بالتشكيك فى القيم والاخلاق وجدوى الدين. إن ما أدعو إليه ليس ترك وتجاهل مثل هذه الظواهر، بل معاملتها بحجمها الحقيقى، فى اطار اجتماعى وثقافى ودينى، فمؤسساتنا الاجتماعية والدينية تعانى أوجه قصور عدة عليها تداركها وعلاجها سريعا حتى تضطلع بدورها المنتظر، وأن نكف عن نغمة دعوة الأمن للتدخل فى كل كبيرة وصغيرة، نعم الأمن مكلف بالتصدى لمن يحمل السلاح فى يده ويهاجم عناصر القوات المسلحة والشرطة المدنية، ومن يفجر القنابل، فهذا واجبه ولا نقاش حوله، ومن ثم لا يتعين اثقال كاهله بأزيد من ذلك، وفى المقابل فإننا نطالب الأزهر الشريف، والكنيسة، ومنظمات المجتمع المدنى، والمؤسسات التعليمية بالقيام بمهامها، وتصحيح ما بها من عيوب وخلل حتى نتقدم ونغادر جب التخلف والترهل. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي