مع تتابع الأحداث وتوالي الكبوات التي تحيط بنا وتهز مجتمعنا، تتعالى الأصوات وترتفع ما بين مُطالبٍ للخطاب الديني، أو متحامل عليه وعلى المؤسسات الدينية - الأزهر والأوقاف – وكأنها السبب في حدوث تلك النكبات من حوادث إرهابية أو حوادث طرق أو مظاهرات، أو غيرها مما يؤرق حياتنا ويهدد استقرارنا. والحق والعدل - الذي ينبغي أن يكون لنا منهجًا، والصالح العام الذي ينبغي أن يكون لنا غايةً وهدفًا - أنَّ الحاجة ملحةٌ لخطاب ديني رائق يوقظ الضمائر، ويثقف العقول، ويحرك الفكر، ويحيي القِيَم في النفوس، لينعكس أثرها سلوكًا واقعيًّا، وبخاصة في ظلّ ما تحياه أمتنا من شتاتٍ فكرىٍّ وتَرَدٍّ للحالة الدينية، وتخلُّف علميٍّ بيَّنَ سببه المفكرُ الجزائريُّ الراحل (مالك بن نبي) في عبارةٍ قالها: “إنَّ التخلُّف الذي يعيشُه العالم الإسلامي اليومَ ليس سببَه الإسلام، ولكنه عقوبة مستحقَّة من الإسلام على المسلمين لتخلِّيهم عنه لا لتمسُّكهم به كما يظن بعض الجاهلين”؛ إذ إنَّ الإسلام في جوهره وحقيقته دين يهتمُّ بتنمية العقل واستثمار طاقاته ونشر القِيَم. هذا إضافة إلى تصاعُد الأحداث السياسية في المنطقة العربية والإسلامية التي تُنذِر بخطرٍ يُهدِّد أمن واستقرار تلك البلاد، وخاصَّة بعد أحداث العراق وسوريا وظهور ما يُسمَّى جماعة (داعش) الإرهابية، وبعد أن أُحبِطت في مصر العديدَ من المخطَّطات الخارجية التي كادت تُحْدِقُ بالمنطقة كلِّها. وعند النظَر في أفكار المُطالبين بتجديد الخطاب الديني - والتي يعلو صوتها في وسائل الإعلام نجد أنفُسَنا بصدَدِ اتجاهات مختلفة تُنبِئُ عن أنَّ لكل اتجاه رؤيةً تختلفُ عن غيرها في مفهوم التجديد، تصل بنا إلى أنَّ كلَّ اتجاهٍ يريد تجديدًا للخِطاب الدِّيني يرسم صورتَهُ ويُحدِّد مفهومَهُ في نفسه، حسَب مُكَوِّنِه الثقافي وخَلْفِيَّتِهِ التربوية، وقد ناقش هذه المسألة فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب في حديثه عن التراث والتجديد، وبيَّن أن قضية التجديد “بدأت تفرض نفسها بعد (سنة 1967) بشكلٍ جاد على طائفةٍ لا يُسْتَهان بها من المفكرين والباحثين وأساتذة الجامعات، تراوحت خلفيَّاتُها المذهبيةُ من قوميَّة إلى ليبرالية إلى ماركسية إلى علمانية إلى أصولية مادية”، ترتب على أثرها مطالبات ودعوات إلى “نفض اليدين من التراث جملة وتفصيلاً والالتحاق بركب الحضارة الغربية فكرًا وسلوكًا، ودعوات إلى تفسير التراث وتأويله بما يَتَّفِقُ وأسسَ فلسفةِ ماركس ولينين، والنظر إلى الإسلام - عقيدةً وشريعةً وأخلاقًا - من خلال قوانين وسائل الإنتاج وعلاقات المِلْكيَّة والصراع الطبقي، ودعوات تنطلقُ بنظرتها إلى التجديد من خصائص التراث نفسه وفعالياته وآلاته في مواكبة التطور تأثُّرًا وتأثيرًا، اعتمادًا على حركة الاجتهاد المشروع في أصول هذا التراث”. وما زالت الدعوات إلى التجديد تتوالى وتزداد تصاعدًا من كل الاتجاهات، لكنَّ السؤال الذي لابد أن يُعْلَن بقوة هو: أيُّ نوع من التجديد نقصد؟ هل نريد تجديدًا للخطاب الديني يحفظ الأصول والثوابت، ويراعي المُتَغَيِّرَات والمُسْتَجَدات، ويَنْفُضُ عنها ما تراكم من غبار يحجُبُها عن أعين الناظرين؟ أم نريد ترويضًا للخطاب الديني بحيث يَتَّفِقُ وهوى بعض الاتجاهات التي تريد تبديد بعض أو أكثر الأصول والثوابت؟ إنَّ المؤسسات الدينية لا تَأْلُو جُهدًا في تحقيق ما يتطلَّبه الواقع من تجديد للخطاب الديني، وإن كان من تقصير فلأنَّ البيئة المحيطة بها يجب أن تتهيَّأ لقَبول ما يصدر عنها من نتاجٍ علمي وعملي، فلا يمكن أن يحدث تجديد وسط جو من الصخب الإعلامي يعكر هذا الخطاب، ويشوش عليه ويبخس جهد المؤسسة الدينية الرائدة. الذي أخشاه من هذه الاتجاهات أو الموجات المُتلاحِقة التي تشكك في الدين حينًا وتتعرض لثوابته حينًا آخر، وهو التنكر لتاريخ الأمة المصرية الذي عُرِفت به منذُ فجر التاريخ، وهو التدين الصادق والتمسك بالقيم والثوابت؛ ولذا كانت مصر من أسرع البلاد قبولاً للإسلام وشعبها أشدَّ الشعوب حبًّا للنَّبِيِّ - صلي الله عليه وسلم - وآل بيته الطيبين وصحابته الأخيار؛ ولذلك كان ولا بُدَّ من مراعاة طبيعة هذا الشعب حتى نتمكَّن من التصدي لكل فكر شاذ كيف ما كانت صوره وأشكاله. وثمَّة دور للإعلام الوطني في التصدِّي للإرهاب، وفي اعتقادي أنَّه لم يتَّضح هذا الدور بعد، علمًا بأنه لا يختلف اثنان في أنّ الإعلام وسيلة مزدوجةُ الاستخدام؛ فقد تكون وسيلةَ بناءٍ وارتقاءٍ بالأوطان، وقد تكون وسيلة هدم وتفتيت للشعوب وللقيم، وكونها كذلك فهذا يدعو لمراجعة كل ما يصدر عن هذه الوسائل ومَن يتحدثون فيها، ولقد أصابنا ما أصابنا من جرَّائها تشكيكًا في ديننا وتشتيتًا لأفكارنا، وقد اتَّضح جليًّا أنَّ الإسلام دين التسامح ونبيه نَبِيُّ الرحمة وهما بَرِيئانِ ممَّا يحدث من قتل وإرهاب وتطرُّف؛ ومن ثَمَّ لا مجالَ لاتهام الإسلام أو التعرُّض لتعاليمه، حتى وإن وردت أو فهمت خطأ بعض النصوص في بعض كتب التراث، والإسلام له ثوابت وأصول تُسْتَقَى من مصادره المعروفة، والفكر الإسلامي هو اجتهادات العلماء، يُؤخَذ منه ويرد عليه، فمَن نَقَّبَ عن مسألةٍ شَذَّ فيها بعض المفكِّرين، وتبنّى كِبْرها وإشاعتها في الإعلام ليُنادي بتجديد الخطاب الديني وتنقية كتب التراث؛ فهذا لا شكَّ خُبْثُ طويةٍ وسوء نية، ووجب على الإعلام أن يتَّقِى الله في دِين الله، وأَوْلى بالإعلام التركيز على قيم الإسلام السمحة وغرس الانتماء والمشتركات الإنسانية التي تجمَعُ ولا تُفرِّق وتُوحِّد ولا تُمزق. إنَّ الخطاب الديني لا يمكن أن يُحقِّق مقاصده، ولا أن يَبْلُغ هدفه بلا إعلام يُركِّز على الثوابت، ويدعم محاور الاتفاق ويَنْتَقِى حاملي الرسالة من الأتقياء، لا المروجين للشاذ من الآراء والمتاجرين بالدين. لقد مرَّت بلادنا بحالةٍ من استغلال المنابر لترويج فكرٍ أو لمصلحة جماعة، وهذه الحالة لا يضبطها إلا قانون، وأعتقد أنَّ الوضع الآن أصبح أفضل بكثيرٍ من سابقه، غير أننا نحتاج دعم المؤسسات الدينية على جميع المستويات، وبخاصة من وسائل الإعلام، والوقوف صفًّا واحدًا خلف الأزهر وإمامه، ورعايةٍ حقيقيةٍ من كل المؤسسات للدعوة والدعاة والارتقاء بهم ماديًّا وعلميًّا، وإلا فالتجديد سيكون سرابًا وخيالاً لا يمتُّ للواقع بصلة.