قد يحسب القارئ لدي مطالعته عنوان المقال أن ثمة خطأ ما به, وأن المقصود هو ثورة الطعام التي يقترن بها الكثير من ثورات العالم عبر التاريخ, والتي تتخذ عادة شعارا عاما لها عن الخبز والحرية, وهما أمران لا يمكن غض النظر عنهما أو التهوين من شأنهما كمطلبين أساسيين لأية ثورة كانت حتي لو اختلفت توجهاتها الايديولوجية, ولعل أغلي وأشهر( نكتة) في التاريخ هي( نكتة) ماري انطوانيت ملكة فرنسا عندما سألت: ماذا يريد الشعب؟ فاجابوها بانه يريد الخبز, فقالت: ولم لا يأكلون( الجاتوه) بدلا منه؟ ودفعت ماري انطوانيت رأسها الذي يقال إنه كان جميلا, ثمنا( لنكتتها) وسخريتها من مطلب يساوي الحياة نفسها, وعندما أطاح صد الجيلوتين( المقصلة الفرنسية الشهيرة) برأسها إبان الثورة, اكتشف ابناء الشعب الفرنسي ورعاعه وصعاليكه وهؤلاء الذين يطلق عليهمSans-Calotte أي بدون سراويل داخلية كناية عن فقرهم المدقع, أن دماء الملوك ليست زرقاء كما كانوا يتصورون, وانما حمراء مثلها مثل الدماء التي تجري في عروقهم, وانهم مثلهم( ولاد تسعة) كما يقال عندنا في مصر كدلالة علي تساوي البشر بجميع طبقاتهم الاجتماعية وطوائفهم ومللهم ونحلهم.. تلك هي ثورة الطعام, والتي كانت انتفاضة18 و19 يناير عام1977 في مصر أحد نماذجها الكبري, أما ثورة الطعام فهي أحد الابتكارات التي عبرت بها الحركة العمالية المصرية عن مطالبها, لشعب كان ولايزال يبتكر عبر التاريخ أساليبه في النضال من أجل الخبز والحرية حتي طور شعاراته في ثورة25 يناير عام2011 بإضافة مطلبي الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية إلي جانب الخبز والحرية. أما هذا الابتكار الفريد من نوعه علي مستوي العالم, والذي لا يوجد له نظير في التاريخ, فهو ما عرفبثورة المطاعم التي جرت أحداثها عام1951, وتبدأ وقائع هذه الحادثة التي رواها لي أحد أبطالها وقادتها المناضل العمالي والنقابي البارز سيد ندا أثناء قيامي بتصوير فيلمي الوثائق الطويل اسمي مصطفي خميس عن أحداث كفرالدوار عام1952, عندما أعلن أحد مصانع النسيج بحي شبرا الخيمة بمدينة القاهرة عن طلبة ستة من عمال النسيج للعمل به, ولما كانت البطالة مستشرية وقتها بين عمال النسيج بشكل خاص, فلقد تقدم ما يقرب أو يتجاوز ألفا وخمسمائة من عمال النسيج كي يتم اختيار ستة من بينهم للعمل بالمصنع وتجمعوا أمامه في الموعد الذي تم تحديده في الإعلان, وهو الأمر الذي بث الذعر لدي صاحب المصنع, وانتابه الفزع من تخيل ما قد يحدث من هذا التجمهر العمالي الضخم أمام مصنعه, أو ردود الفعل الغاضبة لمن لا يقع الاختيار عليهم من العمال المتقدمين لشغل الأماكن الستة الشاغرة في المصنع, بالإضافة إلي استحالة إجراء مقابلات لألف وخمسمائة عامل, وإجراء الاختبارات والفحوصات اللازمة لتعيينهم كعمال نسيج بالمصنع, ولم يجد مفرا من اخطارهم عن طريق مكبرات الصوت بان المصنع لن يقوم بتعيين أحد.. كان عمال النسيج قد تجمعوا أمام المصنع بدافع الحاجة إلي العمل ووطأة وقسوة البطالة التي حلت بهم, وتحول تجمعهم إلي ما يكاد أن يكون مؤتمرا لم يتم ترتيبه بشكل مسبق لعمال النسيج في مصر, وبدأوا النقاش في مشاكلهم وفي مقدماتها حالة البطالة التي تجثم عليهم.. وهنا ظهرت فكرة فريدة من نوعها للتعبير عن حالتهم, اقترح صاحب الفكرة المناضل سيد ندا علي تجمع العمال العاطلين بأن يقوم كل من يملك منهم ثيابا في حالة جيدة وغير رثة بارتاء أفضل ما لديه ثم يتوجه إلي مطاعم( وسط البلد) بمدينة القاهرة ويأكل كل ما يحلوله من طعام فاخر وبأية كمية يريدها, وعندما تحين لحظة دفع ثمن الوجبة التي التهمها يخبر أصحاب المطعم بأنه لا يملك نقودا يدفعها.. وفي الموعد المحدد ارتدي عدد كبير من العمال أفضل ما لديهم من ثياب وتوجهوا إلي مطاعم( وسط البلد) وطلبوا كل ما يحلو لهم من اطايب الطعام, بينما تشكلت غرفة عمليات في مكتب المناضل والنقابي العمالي البارز والشهير في تاريخ الحركة النقابية العمالية في مصر محمد يوسف المدرك منطقة العتبة, وتولت غرفة العمليات مهمة بإدارة حركة العمال وتسللهم أو بالأحري هجومهم علي مطاعم وسط القاهرة, وبعد انتهاء الوليمة وعند المطالبة بالحساب أعلن العمال انه لا نقود لديهم, كانت اعدادهم في مختلف مطاعم( وسط البلد) كبيرة بحيث لا تتيح لأصحاب المطاعم أو العاملين فرصة للشجار مع أي منهم لأن ذلك قد يؤدي إلي تحطيم المطاعم نفسها, كما أن التعليمات التي التزم بها العمال هي أن يسلموا أنفسهم لأصحاب هذه المطاعم كي يقتادوهم إلي أقسام البوليس, وهكذا ازدحمت جميع أقسام البوليس في العاصمة باعداد كبيرة من العمال وفي وقت واحد تقريبا وبتهمة واحدة وهي تناول الطعام الفاخر حتي الشبع وعلي حساب صاحب المحل, وازاء هذه الأعداد الغفيرة منهم استحال اتخاذ أي إجراءات قانونية ضدهم, وحققت هذه العملية التي اطلق عليها ثورة المطاعم هدفها بلغت الانتباه بشدة إلي مشكلة البطالة وسط عمال النسيج في مصر والذين يشكلون غالبية عمال مصر وقتها. أدي هذا الاحتجاج الغريب من نوعه الذي تبدي في هذه العملية إلي أن تنتبه وزارة الشئون الاجتماعية إلي مغزي هذا الحدث ودلالاته, وإلي النتائج الوخيمة التي قد تؤدي إليها حالة الفاقة والعوز والبطالة وسط عمال مصر, فاصدرت قرارا بتقديم بطاقات للعمال العاطلين تيح لهم تناول وجبات اقتصادية بأسعار زهيدة في عدد من المطاعم علي أن تقوم الدولة ممثلة في وزارة الشئون الاجتماعية بتقديم مقابل مالي لهذه البطاقات لأصحاب المطاعم التي تم الاتفاق معها. وهكذا انتهت ثورة المطاعم تلك العملية العمالية الفريدة من نوعها التي ابتكرها عمال مصر للتعبير عن احتجاجهم علي القهر والجوع والبطالة منذ أكثر من ستين عاما اتخذت خلالها الحركة العمالية المصرية في نضالها جميع الأشكال المتعارف عليها والمبتكرة من جانبها في نفس الوقت. ولابد أن خاطرا ما قد طرأ علي اذهاننا عما قد يحدث لو أن عملية كهذه أو ثورة مطاعم جديدة قامت في مصر الآن, والإجابة بالطبع أن هذا أمر يستحيل تكراره, فمنذ ستين عاما كانت الحياة في مصر أكثر بساطة وبدائية, أما الآن فيقف علي أبواب المطاعم الفاخرة عيون راصدة مدربة تقيم أنواب الثياب و(ماركاتها) التي لم تكن قد عرفت أيامها, وتمييز ما هو حقيقي منها وما هو( مضروب) في الصين أو حتي في مصر أو ماليزيا, وما هي أنواع الساعات التي يضعها الزبون في معصمه, ونوع الهاتف المحمول الذي يحمله, والسيارة التي يركبها عندما تمر مفاتيحها ببوابة الكشف عن المعادن الموجودة بمداخل الفنادق والمطاعم الفاخرة, بالإضافة إلي فراسة معينة درب عليها رجال أمن المطاعم وندلائهم علي حد سواء في تحديد نوعية الزبون فحسب بل وتوقع حجم( البقشيش) الذي سيدفعه. أما إذا تمكن شخص ما من اجتياز جميع الواجز واحتال للدخول, فسيواجه علي الأغلب مصيرا يشبه مصير ذلك الرجل الذي صوره الشاعر وفنان الكاريكاتير الكبير صلاح جاهين في مجموعة من اللوحات الكاريكاتورية المتتالية, كان أولها لرجل في صيدلية يطلب سما والصيدلي يقدم له زجاجة السم, وثانيها للرجل وهو يشرب زجاجة السم, وثالثها للصيدلي يمد يده طالبا الثمن والرجل قد قلب جيبي بنطاله الخاوين, ورابعها للصيدلي وقد أمسك برقبة الرجل ويجري له غسيل معدة الجهاز المخصص لذلك, أما اللوحة الأخيرة من هذه المتتالية مع الرسومات الكاريكاتورية فهي للصيدلي وهو يطيح بضربة من قدمه بالرجل خارج الصيدلية. هل يوجد في المطاعم الآن أجهزة غسيل معدة للزبائن الممتنعين عن دفع ثمن ما تناولوه حتي لو كان لحوما منتهية الصلاحية أو أطعمة ملوثة بالمبيدات الكيماوية؟ أم يوجد بعض الحرس المدربين علي ضرب الزبائن الممتنعين عن الدفع في غرف مخصصة لذلك كما هو الحال في بعض( كباريهات) شارع الهرم؟.. أيا كانت الوسائل فمن المؤكد أن هذا الاحتجاج الفريد من نوعه فيما أطلق عليه ثورة المطاعم قد تغير, ولن يعدم عمال مصر الوسائل العديدة والمتنوعة للتغيير عن مطالبهم.. ولن يكف شعبنا المبدع بجميع فئاته عن الابتكار, فليست هذه إمكاناته فحسب, بل علي الأصح قدره.