فتى نحيل "مجاور" بالأزهر، كان فى الرابعة والعشرين عندما راودته فكرة مرعبة، وبتكتم شديد خطط لتنفيذها..ذات صباح، تسلل "سليمان الحلبى" إلى حديقة مقر قيادة الحملة الفرنسية، وما أن رأى قائدها الجنرال كليبر "سارى عسكر"، حتى برز من وسط الأشجار وطعنه بخنجره، ثم اختفى..قبض عليه الفرنسيون، وحكموا بحرق ذراعه التى قتل بها الجنرال، قبيل إعدامه على "الخازوق"، وتركوا جثته للطيور الجارحة.. لكن بعد أن أسهم ابن مدينة حلب السورية فى خلخلة الوجود الاستعمارى الفرنسى بمصر والشام. وبعد نحو قرنين، عاد الزمان يمارس هوايته الأثيرة، ليأتى من سوريا شاب اسمه "جول جمال" يوجه طعنة زاجرة لقوة فرنسا وهيبتها، خلال العدوان الثلاثى على مصر، ويغرق درة تاج البحرية الفرنسية المدمرة جان بارت "تنين البحر المتوسط"، ويوقف بدمائه وروحه الطاهرة، شبح الدمار المحلّق على بورسعيد وما جاورها، تأكيدا لوحدة الوجود والمصير بين شعبى مصر وسوريا، جناحى الشرق العربى. لحظات مهيبة هذه البطولات الفردية لحظات مهيبة فى التاريخ، ليست ضربة حظ طائشة، تبرز فجأة من المجهول، قيمتها أنها بطولة لاتنفصل عن جهد الأمة وطاقتها.. كانت مصر- قبل العدوان الثلاثى- قد خرجت لتوها من أكبر محنة فى تاريخها، عبر أكثر من 2500 عام، محنة الاحتلال متعدد الصور والجنسيات، منذ غزو الإسكندر الأكبر وصولا للاستعمار البريطانى، وأخذت الأنظار فى الإقليم والعالم تتجه إلى القاهرة، محاولة استكشاف ما وراء الأفق من متغيرات، لا يستطيع أحد حساب مداها، خاصة بعد إعلان جمال عبدالناصر التخطيط لبناء السد العالى وبدء معركة التنمية والعدالة الاجتماعية، تعبيرا عن الاستقلال والكرامة الوطنية، ومعها تأججت فكرة القومية ، التى ألهبت آمال الشعوب العربية، وأتت البداية من سوريا، على وهج نيران العدوان الثلاثى، من جانب بريطانياوفرنسا وإسرائيل عام 1956، عقب تأميم قناة السويس، حيث تصدى المصريون للعدوان، بإيمان وإصرار، رغم أن موازين القوى فى صف المعتدين. ملحمة خالدة أعادت تشكيل المنطقة والعالم، توارت الامبراطوريتان البريطانية والفرنسية إلى الخلفية، وبرزت الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتى قوتين عظميين على الساحة الدولية، ووسط هذه اللوحة الرائعة التى رسمها الشعب المصرى ومعه شعوب عربية ثائرة، تجلت فى خطوط اللوحة بطولات أفراد مثل البطل السورى جول جمال الذى استشهد دفاعا عن بر مصر المحروسة. ولد جول يوسف جمّال، فى قرية "المشتاية" بمدينة اللاذقية الساحلية، فى سوريا، ، أول أبريل 1932، لأب مسيحى أرثوذكسى، يعمل طبيبا بيطريا، له باع طويل فى مقاومة الاحتلال الفرنسى لسوريا، فشب الابن على حب النضال والعروبة والإيمان بوحدة شعوبها. ارتبط جول بالبحر، وحلم بأن يكون ضابطا بالبحرية، وعندما واتته الفرصة هجر دراسته بكلية الآداب، إلى الكلية البحرية، ثم أرسل فى بعثة تعليمية عسكرية من عشرة طلاب سوريين، إلى مصر عام 1953، وفى مايو 1956 نال جول جمال رتبة "ملازم ثان"، بعد انتزاعه المركز الأول بين زملائه السوريين، لكنه لم يغادر إلى وطنه، وظل يتدرب على طراز جديد من الزوارق. وبعد شهرين أعلن "عبدالناصر"- باسم الشعب- " تأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية"، فهبت عاصفة استعمارية جديدة، فى سلسلة مستمرة للسيطرة على مقاديرالشرق الأوسط، ضمن حملة أكبر للهيمنة على العالم. مواجهة التنين وكأن القدر أراد أن ينسج أسطورة الفتى السورى "جول"، ففى ليلة الرابع من نوفمبر عام 1956، تم رصد البارجة "جان بارت" أكبر قطعة بحرية فرنسية، وأول سفينة حربية مزودة برادار فى العالم، وزنها 48750 طنا، وعلى متنها 88 ضابطا، و2055 جنديا، و109 مدافع مختلفة الأعيرة، وهى تتجه إلى شاطئ "بورسعيد" لتدمير ما تبقى منها، استكمالا لما فعله القصف الجوى البريطانى. ولما علم جول جمّال أن القيادة المصرية أمرت بالتصدى للمدمرة، اقترح على قائده "جلال الدسوقى" المشاركة بفرق فدائية من زوارق الطوربيد، لمواجهة فخر البحرية الفرنسية، لكن القائد رفض، لأن اللوائح العسكرية لا تجيز ذلك لأى أجنبى، فألح "جول" فى طلبه، قائلا بعينين مغرورقتين بالدموع: "عندما أرى شوارع الإسكندرية كأنى أرى شوارع اللاذقية..لافرق عندى بين مصر وسوريا، أنا لا أرى بلدين، بل بلد واحد"، فما كان من القائد سوى الموافقة على اشتراكه فى تلك المعركة غير المتكافئة. بنى جول جمال خطته على القيام بعملية فدائية نادرة، قاد زورقه صوب بدن البارجة "جان بارت"، ليرتطم بها ويعطبها ويشل حركتها ويخرجها من الخدمة نهائيا، ويستشهد هو، ضاربا أروع أمثلة الشجاعة والتضحية والفداء لمصر التى لم يجد أى فرق بينها وبين سوريا، ويدخل أوسع أبواب المجد والعظمة، وينقذ أهل بورسعيد من دمار ماحق، وتكون تلك الموقعة بداية خلخلة استراتيجية وتغيير جوهرى فى مجريات المعركة، حيث هدرت الشعوب العربية ثائرة فى وجه العدوان الثلاثى. لم يكن جول جمال أول شهيد سورى فى حب المحروسة- ولن يكون- كما أن مصر التى حررت سوريا والشام من بطش الصليبيين وأهوال التتار وظلم العثمانيين، لم تبخل يوما بأرواح ودماء أبنائها، أعز ما تملك، دفاعا عن أشقائها العرب، دليلا على وحدة المصير بين شعوب الأمة، دون اعتبار لحدود أو تقسيمات، تحت خيمة العروبة. وقد أرسلت البحرية المصرية كتابا إلى القوات المسلحة السورية، جاء فيه :"ننعى إليكم – بفخر واعتزاز- الملازم الشهيد جول جمال، أول من دعّم بحياته أسس التعاون الفعلى بين قواتنا المشتركة، حيث إنه أول شهيد عمليات مشتركة مصرية- سورية.."، وأقيم "قداس على روحه" بحضور وزير الدفاع السورى وممثلين للقوات المسلحة المصرية، فى اللاذقية. كما منحت القيادتان المصرية والسورية اسم "جول جمال" أعلى الأوسمة والنياشين، بوصفه فارسا نبيلا، و"أيقونة"عشق وطنية، حمى "النيل" من "تنين المتوسط" قبل أن يفرغ سمومه على الشاطئ، ثم توالت صور التكريم من البلاد والقادة العرب، وأطلق اسمه على العديد من المنشآت والشوارع بمصر وسوريا وغيرهما، وأنتج عنه فيلم سينمائى بعنوان "عمالقة البحار". قارورة عطر كان جول جمال "قارورة عطر" سورية فى وجه الكنانة، فارسا كالصخر أمام موجة الظلمة والعدوان، حالما كبر حلمه إلى مستوى التضحية، وقد تكرر مشهد بطولته بروعته، عندما أعاد أبطال مصر كتابة تاريخ البحرية العالمية - دون تزيّد أو مبالغة- ولقنوا العدو الصهيونى درسا مريرا، عقب نكسة 1967، بإغراق أكبر قطعة بحرية إسرائيلية، المدمرة "إيلات"، بصاروخ مصرى من لنش صغير. إنها بطولات تستعصى على النسيان، فرنسا نفسها لم تنس ما فعله جول جمال، مثلما لم تنس ما فعله سليمان الحلبى - مازالت تحتفظ بجمجمته وخنجره إلى اليوم- فقد ذكرت صحيفة فرنسية أنه خلال توديع وزير الدفاع الفرنسى جنوده المتجهين إلى العراق، على شاطئ بلاده، قال لهم:"لاتعتقدوا أنكم ذاهبون فى نزهة، ينبغى عليكم الحذر، انظروا – وهو يشير إلى "جان بارت" التى صارت "عبرة"، بعد سحبها من البحر، ووضعها على الشاطئ- ماذا فعلوا بكم فى حرب السويس"..! المؤسف حقا، أنه بعد عقود، مازالت مصر – وسوريا ودول عربية أخرى- هدفا للحاقدين والإرهابيين المأجورين، نسوا أن خيانة الأوطان عداوة للدين، ينشرون الخراب والإرهاب، امتثالا لمخططات خارجية آثمة وداخلية خسيسة، آخر مظاهرها العدوان الإرهابى على "لنش البحرية" شمال دمياط، لقد مضى زمن وأتى آخر تتعرض فيه البحرية المصرية لعدوان غادر، من داخل الأراضى المصرية نفسها، مدفوعا بأموال وتوجهات خارجية.. ظواهر خطيرة مقلقة، لاريب، لكن هيهات أن يهزم بلد، اسمه مكتوب على جبين التاريخ علامة شرف وسمو، علّم الدنيا العزة والحكمة والحضارة؛ والحقيقة خلف كل ستار أن مصر تخطو للمستقبل. فالمصريون وأشقاؤهم، عبر الأزمان، مولعون بالمكارم والذود عن نيلهم وعروبتهم، طلبا للرقى والازدهار، بسمو بطولات الأبطال وتضحياتهم التى هى عهد و"سيف باتر" بوجه أى محتل غاصب أو دخيل خائن..إذ على قدر أهل العزم تأتى العزائم..!