كان على فتيات ونساء أنطاليا ، تلك المدينة التركية الهادئة ، الواقعة على ساحل المتوسط فى الجنوب أن يحسدن أنفسهن ، كونهن يعشن فى بلاد لا تعرف هذا الرعب الدامى الذى يسرح كالسرطان فى فضاءات عدد من بلدان العالم الإسلامى. ويعد الأنفاس على الأبرياء، ويقف لهم بالمرصاد إذا وقعوا فى المحظورات، وكم باتت بفضله لا تعد ولا تحصى، وفى القلب من تلك المآسى تأتى النساء لتحتل بؤرتها لقدرهن فى أن ينظر البعض لهن كمصدر وحيد للفتنة والغواية، بدءا من طفولتهن مرورا بصباههن وشبابههن، وانتهاء عندما يبلغن من العمر أرذله . ففى نشرات الأخبار يسمعن، وعلى صفحات الجرائد يقرأن، ودراميا على الشاشات الفضية يرين إلى أى مدى وصل التنكيل ببنات جنسهن فى عوالم ليست بعيده عنهن، بل هى فى جوارهن ، صحيح يعلمن أن ثمة عنفا ضدهن فى المجتمع الأناضولى، لكنه لا يقارن بأى حال من الأحوال مع هذا الذى يفوق حد الخيال، بيد أنه مستعصى على الوصف ، ولايمكن أن يحدث إلا فى أعمال فنية تتسم بالإثارة والخوف ، وهذا العام تحديدا كن على موعد مع شرائط سينمائية، حفلت بها الدورة الحادية والخمسين من مهرجان مدينتهن المعروف باسم البرتقالة الذهبية ، عكست بحق هذا الواقع الأليم ، وغلب على مفرداتها صيغ الشجن والاستنكار معا. فعلى نقيض من جغرافية بلادهم ذات الهضاب والتلال المكسوة بخضرة متناهية، تراءت أمام أعينهن على الشاشة الفضية مساحات شاسعة من بحور الرمال الصفراء، جسدت بدورها آيات من صنع المولى لفرط جمالها وإبداع صانعها، ويا لطيف اللطف ، فقد بدت تلك المناظر الخلابة ، هكذا حكت لقطات الفيلم ، قرينه أفعال الشيطان والعياذ بالله ، ولابد من إتلافها بسيل من طلقات الرصاص لطمس الرجس فى هذا التجسيد التشكيلى الذى لم يدخل فى تكوينه يد بشر ولكنه من الطبيعة .. فكيف هذا بحق السماء، هكذا ندت علامات الاستفهام من داخل قاعة العرض غير مستوعبه أن يكون هؤلاء بشرا مثلهم ؟ غير أن هذا كان جزءا يسيرا فقط ، من أجزاء مقززة ومرعبة ومخجلة، ضمها شريط تمبكو Timbuktu نسبة لمدينة بذات الأسم بشمال مالى الإفريقية الموعودة بالقهر، وأن اختلفت أشكاله وفاعلوه ، فقد اختطفت من أجل أن تنعم بتطبيق الشريعة الغراء ، فإذا بخاطفيها يحرمون على مواطنيها كل شىء، بما فى ذلك عاداتهم وتقاليدهم التى ألفوها وتوارثوها على مدى مئات السنين ، يقيمون المحاكم يرجمون الزانى والزانية لمجرد الشك دون بينة، ويجلدون بقسوة من تجرأت وغردت بأغان من بيئتها، ولكنها مع كل سوط ينال من جسدها الضعيف تحدت وعاوت الغناء، الذى خرج بدوره ممهورا بصرخاتها المعذبة . وفى مشاهد تدعو للأسى، ظهر أمام الكافة فتية يلعبون بكل جدية مباراة اللعبة الشعبية الأولى فى العالم دون أن تكون هناك كرة، فقط تخيلوها يتناولونها بأقدامهم لبعضهم البعض ويصوبونها للمرمى، والحارس نفسه يقاتل حتى يمسك بها وسط صيحات الصغار فرحا وحزنا فى آن، قتامة الفيلم الذى أخرجه عبد الرحمن سيسكو وأنتجته فرنسا وساهمت فيه بلدان خليجية، لكشف الزيف وفضح ممارسات هى حقا لا علاقة لها ليس بالدين، فحسب بل بكل ما يمت للإنسانية بصلة، لم تمنع صانعيه أن يضفوا بصيص أمل فى تلك البراعم الصغيرة، فهى وإن تخيلت أنها تلعب بالكرة فحتما ستمتلكها، وبها يعيدون وطنهم المسلوب إلى نقائه وبساطته وأيقوناته التى دمرت بحجة أنها أصنام. من شمال مالى إلى الشريط الساحلى القريب نسبيا ، حيث تسكن تونس التى بدأت الربيع العربى بجسارة فاقت القاصى والدان، لكنها راحت تئن من غبار التأسلم الجهادى، وفى شريط مفعم الإثارة تقص مخرجته كوثر أبو هنية حكاية رغم قدمها نسبيا ( 2003 ) إلا أن مضمونها مازال قائما ، فالقناص الشهير الذى يقود بخارية وبيده مشرط حاد يلهب به مؤخرة الفتيات اللاتى لا يرتدين الحجاب، أصبح أسطورة خصوصا الآن، ولا يهم ما تركه من جروح وآثار نفسية لدى ضحايهن ، بيد أنه ورغم الطابع البربرى والهمجى إلا أن المجتمع التونسى وفقا للفيلم انقسم إلى فريقين ، أحدهما عريض مع الأسف التمس له العذر ووجد التبرير من أجله التبرير، وعلى الفتاة التى لا تتحشم ألا تندم، وتتحمل ما يجرى لها عقابا على سفورها وقلة أخلاقها، هكذا بمنتهى البساطة . أما الرافضون فهم قلة ، منعتون بأشد الأوصاف انحلالا لأنهم يدافعون عن الفجور ولتسقط الورقة الأخيرة عما كان يفترض وجودها ألا وهى الحداثة ، ليتصدر الشليط صاحب المشرط المشهد، ورغم هذا السواد ينتهى الفيلم دون أن ينسى أيقونة التونسيين والتونسيات صوت عبد الحليم حافظ وكأنه هو الأمل .