لم يكن جيلنا محروما بالمعني الدقيق للكلمة من رؤية الاجساد اللدنة علي الشاشة الفضية وربما نتذكر في ذلك الزمان البعيد أعمالا عديدة أجنبية وجدت طريقها لدور العرض في مصر دون أن يمتد لها مقص الرقيب وكانت زاخرة بلقطات لم تكن تثيرالغرائز بقدر ما كانت تعبر عن محتوي درامي بالغ الرقي والجمال والواقعية مثل انفجار لانطونيوني الايطالي الشهير, ورجل وأمراة للفرنسي كلود ليلوش والخريج الأمريكي الذي قام ببطولته داستين هوفمان في مستهل مسيرته بعالم الفن السابع, والسينما المصرية نفسها في الستينيات وكذا الخمسينيات حفلت بعض أفلامها بمشاهد اعتبرت من قبل النقاد جزءا لا يتجزأ من نسيج تلك الافلام, ومرت مقالاتهم دون أن يواجهوا بنعوت الكفر والضلال أو الاتهام بالدعوة إلي نشر الرزيلة والفجور, وفنانات الابيض والاسود مثلن عشرات الاعمال, ومنهن من رحل عن عالمنا, وبعضهن أطال الله في عمرهن, لم نسمع منهن إجمالا ما يشير إلي ندمهن علي ما فعلنه وقدمنه, والأمثلة لا حصر لها: تحية كاريوكا ودور شفاعات في شباب امرأة, وهدي سلطان في امرأة علي الطريق, ومريم فخر الدين في مع الذكريات, وسعاد حسني في بئر الحرمان, وسميرة أحمد في ليلة واحدة والأخير رغم جرأته لم يستمر أكثر من اسبوع في سينما مترو, إلي آخره. وهكذا لم تأت شمس البارودي باللافت الصارخ, صحيح كان بعضا من إفلامها, وليس كلها, يواجه بانتقادات لاذعة, لا لما يوصف بالعري, وإنما لضحالة أفكارها وسطحية معالجاتها الفنية, لكن بزوغ نجمها بدا مغاير ومختلفا, كونها وجها معبرا عكس موهبة تمكنت من إداء أداور متنوعة باقتدار بالغ وهذا ما قامت به هذه الفنانة وليس صحيحا أن جمالها الاخاذ وأنوثتها كانا هما فقط جواز مرورها في هذا الفضاء السينمائي الواسع, فكم من جميلات سقطن سقوطا مذريا من أول عمل, رغم ما بذلنه من جهد لكشف أجسادهن ولكنهن فشلن في نيل رضاء الجمهور والأمثلة عديدة جورجينا رزق ملكة جمال لبنان وطروب وغيرهما الكثيرات إلا أن المكان لا يتسع لذكرهن جميعا. أنني اتذكر الان شمس البرودي قبل أربعين سنة ودورها البسيط المعبر في' الجزاء' الذي أخرجه وقام بتأليفه واحد من المبدعين المصريين الكبار الراحل عبد الرحمن الخميسي1920 1987 ومع الاسف لم ينل حظه في شباك التذاكر رغم أنه يجسد جانبا من القهر والظلم الذي عاشته مصر. وفي' هي والشياطين' هذا الفيلم الذي أخرجه حسام الدين مصطفي وجدنا شمس البارودي وقد أدت دور وردة الراقصة المثيرة أداء وجمالا وهي تنتقم لحبيبها( أدي الدور الراحل يوسف فخر الدين) كما أن الشريط اظهر لنا أحمد رمزي الذي كان قد تجاوز مرحلة الشباب, في شكل ومضمون مغايرين ومختلفين عما اعتدنا عليه, وفيه برع حسام الدين مصطفي في نسج عمل سينمائي مشوقا اعتمد علي الاكشن والإثارة البوليسية. ثم يأتي حمام الملاطيلي عام1973 والذي وضع قصته إسماعيل ولي الدين ليشكل علامة فارقة في مسيرة شمس البارودي, التي أدت واحدا من أهم وأجمل أدوارها, ولأنه يدور في كواليس غامضة, وعوالم الدعارة في قاهرة المعز كان طبيعيا أن يغوص صلاح أبو سيف في أجساد منسحقة تنهشها وحوش كاسرة, ولكن ماذا تفعل' نعمة' الفتاة المقهورة حيال قدرها المحتوم, وعندما يأتي لها الامل في حياة أخري يأتيها سيف المجتمع ذو التقاليد البالية المزدوجة باترا دون رحمة أو دفاع, وأجساد أخري فارهة( نعمت مختار) تعاني حرمانا في حين تنشد المتعة ثم وهذا هو المهم دخل الفيلم عالم المثليين جنسيا ورموزه أمثال البك' رءوف'( يوسف شعبان) وكان الفيلم سابقة مثيرة ورائعة لم تكن مألوفة في السينما المصرية. ولم يمر سوي عام واحد فقط, إلا وتقدم شمس البارودي دورا متميزا شديد الاختلاف والتباين شكلا ومضمونا في فيلم' ليلة العمر' والذي أخرجه سعد عرفة وفيه تجسيد لعلاقة أزلية بين ربيع وما يحمله من انطلاق وبشاشة وإقبال علي الحياة وخريف يتوق إلي الهدوء والسكينة وفي نفس الوقت يحلم بالربيع وقد كان. فسلوي الشابة الصغيرة المنطلقة( وهي هنا شمس البارودي) سرعان ما تهبط علي' محمود' أحمد مظهر رجل البنوك الكبير, ومعا وفي أجواء ساحرة خلابة بمنطقة سيدي عبد الرحمن بمرسي مطروح تأتي ليلة العمر التي نكأت بدورها جراحا غائرة في نفوس إنسانية معذبة يجسدها لنا ببراعة سعد عرفة من خلال لغة سينمائية لعبت علي ما يجمع الربيع والخريف من سمات مشتركة, ورغم ذلك ينتهي الشريط دون أن يجدا مرفأ. وبعد هذا الفيلم مرت سنوات قدمت البارودي عددا من الافلام إلي أن جاء دور أنصاف في المجرم لصلاح أبو سيف عن قصة' تريزا راكان' للفرنسي أميل زولا, هذا الشريط الذي سبق وقدمته السينما المصرية عام1951 بعنوان لك يوم ياظالم وبتوقيع ابوسيف أيضا وفيه تعيش معاناة شابة جسدتها فنانتنا شمس البارودي ترغم علي الزواج بابن خالتها المعتوه وبطبيعة الحال لا يكون أمامها سوي الامتثال لعرف وتقاليد واقع لا يمكن لها الفكاك منه وها هي تنعي في صمت حياتها الرتيبة المملة في كنف خالتها والزوج, إلي أن تزحف إلي حياتها روح الشيطان المجنونة, وأيا ما ساقته الاقدار من تبريرات, إلا أن النفس التواقة لأنيس للفؤاد والجسد في آن سرعان ما تندفع بكل قوة نحو عشق هذا الكائن الشرير ويالها من مصادفة أن يكون فضاؤها المعيش هو نفسه ذاك الحمام شعبي في رواية حمام الملاطيلي. تلك كانت بعضا من أفلام جادة في مسيرة الفنانة شمس البارودي التي قررت قبل ربع قرن وربما أكثر أن تعيد هيكلة حياتها جذريا من أجل أن تبدأ من جديد وكأنها جنين جاء توا إلي الدنيا, تاركة ماضيها الملعون متمنية له أن يكون جهنم مصيره, في حين أن ما تقينت علي أنه إثم يراه البعض غير ذلك البتة بيد أن ما اعتبرته المعتزلة خطايا تجد طريقا للشاشات الصغيرة في بقاع مختلفة من اركان العالم الاسلامي. أمامها يجلس المرء يشاهد ويستمتع بأداء صاحبة تلك اللا خطايا. وهذا المتفرج يدرك تماما أنه لو أراد رؤية الخطايا نفسها فهو يعرف مكانها, فقط عليه أن يمسك الريموت كنترول ويذهب إلي ما يريد لكنه عبثا فيده لا تطاوعه لقد صار إسير متعة الفن والتلوين في أداء تلك الفنانة, فنور شمسها لا يمكن أن يغيب عن ذاكرة السينما المصرية..