يأتي دائما شهر أكتوبر ليحمل لنا ذكرى وفاة عملاق الأدب العربي ومؤسس مدرسة السرد الفريدة المعاصرة ( طه حسين) الذي رحل عن عالمنا فى يوم كهذا ، يوم 28 أكتوبر عام 1973، في ثنايا احتفالات مصر بانتصارات أكتوبر المجيدة عن عمر ناهز الخامسة والثمانين من رحلة حياته المديدة. وطه حسين من ذلك الجيل الموسوعي الذي ُتمثل نتاجاته الإبداعية في النطاق النثري المسرود قيمة فريدة ومائزة ، فقد رمى ببذور كتاباته في بحور ومراس عديدة ، فكتب في الرواية والقصة كما كتب في السيرة وحديث الذات ، وأبدع في تحليل قضايا الفكر المعاصر ، وتجديد الخطاب الثقافي والإبداعي ، وعايش قضايا النقد الأدبي في حديث الأربعاء ، واستلهمته تجارب عدة كتجربة أبي العلاء في الحياة والفن ، والمتنبي في إمارة الشعر ، وتجارب الجاهليين ، ولذا يعتبر طه حسين نموذجًا خصبًا ومتجددًا لاختبار مفاهيم القراءة وأنماطها ، فهو حالة خاصة وبارزة لما يفعله القارئ العصري في تراثه وواقعه حيث يعيد النظر في كل شىء ، يرفض المسلمات حتى يستبدل مكانها منظومة أخرى من المبادئ التي تعينه على عرض فكرته بالصورة التي يريدها ، ويتحمس لها ، ويدافع عنها . ولعل أكثر ما يجذب القارئ والمثقف إلى يومنا هذا لقراءة أدب طه حسين وفكره ومؤلفاته عامة ، هو صنيعه الفني ومدرسته السردية الخاصة ، التي تميل إلى تغليب الأسلوب القصصي والبناء الروائي على كافة أشكال الكتابة عنده , ولقد أصاب المازني حينما أكد هذه النزعة ، فقال : ( وهل ذكرى أبي العلاء وابن خلدون وحديث الأربعاء إلا قصص تمثيلية ؟ والأدب الجاهلي بحث علمي حر ، ولكنه على هذا رواية ممتعة ) . وميل طه حسين إلى الكتابة بروح القاص كان اتجاهًا فارقا ، لسبب بسيط ، هو أن الرواية في زمنه ، وفي إرهاصات إبداعه لها ، لم تكن ذات وجود مؤثر بالمعنى الحقيقي للرواية الآن ، ولم يكن لها الهيمنة الخاصة والغالبة كوقتنا الراهن ، ذلك إذا تذكرنا أن كتابته – على سبيل المثال – لسيرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والتي صاغها بتكنيك القصة وبآلياتها وخواصها وعقدها ، في كتابه الخالد (على هامش السيرة ) كانت في مطلع الثلاثينيات من القرن المنصرم . ومدرسة طه حسين في السرد تتضح بجلاء في كتابه الفريد (الأيام ) الذي انتهج فيه منهج الاستقراء الذاتي لرحلة عمره ، موظفًا الطاقة الحكائية المتجددة عنده بشكل يجمع بين عفوية الأداء ومباشرته على درجة من درجات الوعي ، وبين طبيعة البناء الأسلوبي الخاص به ، والذي مال فيه كثيرًا إلى نطاق الربط بين لغةالاعتراف وبين الدفع بمساحات الخيال كخلفية تحرك فراغات السرد وتملؤها ، مستهدفًا بذلك الوصول إلى صياغة جامعة مائزة لأسلوبه في هذا الكتاب بصفة خاصة ، فكانت الصياغة فيه تمثل محورا فارقا عن بقية كتاباته في فن السيرة النصية ، ويبدو أن ذلك ناتج من تأثره واستفادته كثيرًا من قراءاته لروائع الأعمال العالمية في السيرة الذاتية ، وخاصة في الأدب الفرنسي مثل ( اعترافات ) جان جاك روسو في القرن الثامن عشر ، والسير الذاتية لألفريد دي موسيه في القرن التاسع عشر ، وأندريه جيد في القرن العشرين ، و كتاب السيرة الذاتية في الأدب العربي القديم والمعاصر من أمثال ابن سينا وابن خلدون وأسامة بن منقذ وعبد اللطيف البغدادي ، ورفاعة الطهطاوي ، وعلي مبارك ، ، إلا أنه وقع في غواية الحكاية عن النفس ، فالقارئ للأيام يلمس مباشرة أثر سيادة الشخصية بصور مختلفة ، فهي المحور الذي تدور حوله كل الأحداث ، وهو حريص فيها على إلقاء الأضواء الكاشفة على (شخصيته ) بطريقة سردية تكشف أبعادها من الخارج مع ملاحظتها نفسيًا من الداخل . واهتمام طه حسين بالسيرة – بصفة عامة – من خلال مؤلفاته الثلاثة ( الأيام - على هامش السيرة - الشيخان ) وحتى في كتابيه ( مرآة الإسلام ) أو ( الوعد الحق) كان مردودا بلا خلاف إلى غواية ( الحكي ) المعروفة عنده ، وهو ما كان يسميها دائمًا بغواية (الإملاء ) و ( الحكاية ) ، لذلك فهو كثيرًا ما يقول في بدايات مؤلفاته بأنه قد ( أملاها ) أو ( حكاها ) ، ويمكننا أن نستدل في ذلك بقوله في مقدمة كتابه (الأيام) :(هذا حديث أمليته في بعض أوقات الفراغ. لم أكن أريد أن يصدر في كتاب يقرؤه الناس ، ولعلي لم أكن أريد أن أعيد قراءته بعد إملائه, وإنما أمليته لأتخلص بإملائه من بعض الهموم الثقال ، والخواطر المحزنة التي كثيرًا ما تعتري الناس بين حين وحين ، وللناس مذاهبهم المختلفة في التخفف من الهموم والتخلص من الأحزان ، ولست أدري لماذا رجعت ذات يوم إلى ذكريات الصبا ، أتحدث بها إلى نفسي فيما بيني وبينها ، إنما تحدثت إليها حديثًا مسموعًا ، فأمليت هذا الكلام على صاحبي في رحلة من رحلات الصيف ، ثم ألقيته جانبًا ونسيته أو كدت أنساه) . إذن فهذه هي غواية الحكي عند طه حسين ، وهي غواية قائمة على افتتانه بطاقات السرد المتولدة في نفسه ، وتراكمات التراسل اللغوي النابعة من ذاته ، وهو ما يفتأ يذكر ذلك , فطاقات السرد والتعبير عنها بشكل روائي ، والتفرغ لها عند طه حسين تمثل بُعدًا راسخًا في أطوار حياته على حد قوله ، وهي التي دفعته ليفجر أكبر طاقة روحية يمكن للأدب أن يضئ بها الحياة ، ويعيد تفسير الكون والتاريخ في القرن العشرين في مصر والعالم العربي على حد تعبير بعض النقاد المعاصرين, إلى جوار رفاقه الكبار العقاد والمازني وتوفيق الحكيم وعبد الرحمن شكري وغيرهم من رواد الفكر والأدب في القرن المنصرم . الأستاذ بكلية آداب حلوان