يعرف قاموس أوكسفورد السيرة الذاتية أنها كتابة الشخص لتاريخه وقصة حياته بقلمه وقد ورد في معجم مصطلحات الأدب أن السيرة الذاتية سرد متواصل يكتبه شخص ما عن حياته الماضية. ومن أشهر السير الذاتية في الثقافة العربية قديما الاعتبار لأسامة بن منقذ, والمنقذ من الضلال للإمام الغزالي, وفي العصر الحديث الأيام للدكتور طه حسين, وأنا لعباس محمود العقاد وحياتي لأحمد أمين, والخبز الحافي لمحمد شكري وأوراقي.. حياتي لنوال السعداوي وصور من حياة عبد القادر المازني. و رغم أن العقود الأخيرة شهدت ازدهارا في نشر كتب السيرة الذاتية في مصر, إلا أن هذا الشكل الأدبي, لا يزال أسيرا لعدد من المحاذير التي تفرضها ثقافتنا الشرقية. ففي مجتمعاتنا التي تعتبر الحياة الشخصية حرما ممنوع الاقتراب منه وتصدر أحكاما قيمية قاسية علي التجارب الشخصية, و تعتبر النقد وسيلة للتجريح وانتقاصا للكرامة, تفتقد السير الذاتية لأهم مقوماتها, ألا وهو عبق التجربة الإنسانية الحقيقية, و تتحول لشبه منشور بارد جامد, تغيب فيه الحقيقة وراء الكثير من المسكوت عنه. في هذا السياق عمد بعض كتابنا لتقديم أجزاء من سيرتهم الذاتية في قالب قصصي أو روائي ليتخلصوا من وطأة رقيب مجتمعي وليطلقوا لخيالهم و أقلامهم العنان.. ورغم أن جنس السيرة الذاتية لا يزال في شرقنا مثقلا بكثير من القضايا التي لم تحسم بعد من حيث موقعه بين الأدب والتاريخ, و دلالاته, ومساحة الحقيقة والخيال فيما يسرده الراوي وتنوع أساليبه ما بين الشكل التقليدي القائم علي سرد الأحداث و الوقائع, أو الشكل التصويري الذي يجمع فيه الكاتب بين الطريقة السردية وبين طريقة الرواية الفنية القائمة علي التصوير للتجارب والأماكن والمواقف والشخصيات أو الشكل الروائي حيث تتسع مساحة الإبداع بما يسمح للكاتب أن يصيغ تاريخه الخاص صياغة أدبية,والجدل حول كتابة سيرة حياة كاملة أم جزئية ترصد جزءا أو مرحلة عمرية ما,يصدر الكاتب خيري حداد روايته حانة البقر بقوله انها الجزء الأخير من السيرة الذاتية للكاتب التي أصدرها كمتوالية تحمل عناوين أيام الكراهية و الكلاب والشيخ وعيال البحر و امرأة من دخان, التي تناول فيها حياة القرية من خلال شخصية الصبي حسن الذي يرصد في مرحلة لاحقة من عمره طبيعة العلاقة بين أبيه وأمه وتفتح مداركه علي عالم المرأة السحري قي البيئة الريفية التي لا يعكس مظهرها الهادئ ما يموج تحته من مشاكل اجتماعية و عفونة و ضحالة سببها الفقر و الجهل.. والحقيقة أن اختيار الكاتب أن يطلق لفظ سيرة ذاتية علي عمله الأخير الذي تدور أحداثه ما بين القرية وبندر منوف وحي شبرا في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي يضع العمل في مصاف السيرة الجزئية أو رواية السيرة التي يمزج فيها الكاتب بين بعض عناصر الحقيقة و الخيال الروائي ليتواري خلف شخصية بطل الرواية ويصور الأحداث بحرية أكبر.. ورغم أن الذات الفردية تظهر في العمل بوصفها المرجعية الأساسية لمادة النص,بحيث تتصل كل العناصر الفنية والمكونات السردية بتلك الذات, إلا أننا نلحظ في حانة البقر أن حسن وإن كان هو الراوي والشخصية المحورية التي تتشابك حولها كل الخيوط, يتحول لشبه مرآة عاكسة لكل الشخصيات. في سبيل تحقيق تلك الرؤية لا يقيد حداد قلمه بالوقائع و يطلق له العنان ليجول بين الواقع وبين الخيال, لينقل ملامح عامة في حياته أو بيئته و يقدم عملا ظاهره كما أعلن انه قصة حياة, وباطنه فيما بينه وبين نفسه مملوء بالخيالات والأفكار التي لا أساس لها في الواقع ليقدم لقارئه الرواية الذاتية التي تختلف تماما عن فكرة السيرة الذاتية.. وفي حانة البقر نلاحظ أن الكاتب خيري حداد لم يقدم عمله كحكي خالص يتحول فيه لمجرد شاهد ينقل الوقائع ويروي حكايات الشخصيات,إذ استعان بالحوار و السرد المشهدي الأقرب للشكل المسرحي ليجعل العمل و الشخصيات أقرب للحياة. و الحقيقة أن عملية المزج بين السرد التقريري والحوار التمثيلي وأسلوب السرد التشخيصي في تقديم الأحداث والوقائع و الشخصيات وأقوالها التي وظفها الكاتب في عمله أسهمت في توضيح طبيعة العلاقات بين الشخصيات وارتباط الاسباب بالمسببات في إطار مقبول لا يتوسل بمباشرة غير مطلوبة في الأدب أو أحكام قيمية علي الشخصيات التي تمارس انحرافها في سياقات تفرضها البيئة المحيطة بهم( الصول و زوجته وعشيقات الحضر و تاجر الكيف) مما جعل فصول العمل أشبه بمتوالية حكائية يصوغها و يحركها الأشخاص الذين يدورون في فلك الراوي أو من يتصلون بهم.. كذلك فقد وظف الكاتب الحكي القائم علي التقديم المباشر التقريري. الذي يكتفي بنقل المعلومات وتقديمها علي نمط أقرب إلي نمط أسلوب المذكرات ويتجلي ذلك في تقارير مباشرة عن وفاة زوجة الصول و حكايات فتيات القرية و التعريف بشخصيات ارتبط بها في طفولته وأحداث حرب اليمن.. ورغم أن العمل في مجمله يدل علي وعي بآليات السرد الروائي إلا أن المقاطع التي أقحم فيها المؤلف أراءه و أفكاره بشكل مباشر( كما في حالة السرد وحديث حسن وسوسن عن حرب اليمن) أكسب تلك الصفحات طابعا خطابيا صرفا. مع ذلك فلقد قدم حداد وجها للريف يختلف تماما عن كل الصور الرومانسية التي صدرها الأدب المصري منذ زينب د. هيكل أو حتي عن المثالب التي رصدها بوسطجي يحيي حقي أو حادثة شرف د. يوسف إدريس, و أزعم أنه وضعها في بناء روائي محكم. الجدير بالذكر أنني عندما قدمت قبل عشر سنوات قراءة في كتاب الغجرية للكاتب خيري حداد تناولت إشكالية المباشرة ومحاولة الكاتب تأكيد الفكرة لضمان وصولها كاملة للقارئ مما أثر علي البناء الفني للعمل وهو الأمر الذي يبدو أن رباعية حداد الأخيرة قد تجاوزته ليصل إلي مستوي أنضج وأكثر تماسكا و انسجاما لتقديم حالة خاصة لرواية حاولت أن تحقق حلم الصدق المستحيل في سيرة ذاتية أو في رواية لسيرة..