هل يفهم الأمريكيون ما يجرى فى العالم العربى أم أن الجهل بمقدرات الأمور فى تلك البقعة من الأرض هى سبب الكوارث التى تجرى بها المقادير؟ ربما كان الأصل أن واشنطن بما تملكه من خلفيات استشراقية معرفية من جهة، ومن معلومات استخباراتية شديدة الدقة من جهة ثانية، مرشحة لأن تفهم بأفضل قدر طبيعة العرب والشرق أوسطيين .على أن المتابع لمراكز الفكر الأمريكي، النزيهة منها بشكل خاص، وبعض وسائل الإعلام ، يلحظ أن مسألة الفهم المتبادل باتت تشكل علامة استفهام ومثارا لكثير من الأحاديث والتحليلات، جلها يلقى باللوم على الجانب الأمريكي، ويصفه بالجهل عندما يتصل الأمر بالشرق الأوسط معرفيا.. «هل الإشكالية فى واقع الأمر تتصل بحالة الأمية الثقافية عند المواطن الأمريكى أم هى نتاج لتزاحم المعلومات عند المسئولين ما يعجزهم عند هضم وتحليل، حقائق الأشياء وطبائع الأمور شرق أوسطيا، عربيا وإسلاميا بنوع خاص؟ منذ بضعة أيام أجرى مسح «روبر الجغرافى الوطني» فى الولاياتالمتحدة، استطلاعا للرأي، لتحديد حالة المعرفة أو الأمية الجغرافية للأمريكيين، وقد جاءت النتائج فى واقع الحال صادمة، سواء على صعيد العوام أو النخبة. أظهر المسح أن 63% من الأمريكيين غير قادرين على تحديد مكان العراق على خريطة العالم، وهى مسألة مثيرة جداً. أمر آخر، فقد قال أكثر من ثلثى المستطلعين إنهم لا يعرفون فى أى عام أعلنت دولة إسرائيل استقلالها، أضف إلى ذلك اعتقاد نسبة متساوية خطأ بأن إيران وباكستان هى دول عربية. مؤخرا توقفنا كثيرا أمام قراءة صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية «المغلوطة» بشأن ما يجرى على أرض المحروسة، لكنا لم نعر الانتباه الكافى لمقال أخير كتبه «جيف شتاين» على صدر صفحات الجريدة الأمريكية الفاعلة والمؤثرة وقد جاء تحت عنوان «هل يمكنك أن تفرق بين السنى والشيعي؟». يقر «شتاين» بأن معظم المسئولين الأمريكيين الذين قابلهم لا يملكون أدنى فكرة عن ذلك الفرق، ليس فقط مسئولو الاستخبارات والموظفون المكلفون بإعمال القانون، ولكن أيضا أعضاء الكونجرس الذين لديهم أدوار مهمة فى الإشراف على وكالات التجسس.يحار المرء كثيرا فى محاولة فهم الازدواجية الأمريكية،ففى الوقت الذى تجهز فيه أمريكا «برج بابل» الاستخباراتى فى صحراء ولاية نيومكسيكو، كى تحتفظ فيه بالمعلومات الكونية، بدءا من مخالفة السير، وصولاً إلى تسليح الجيش الروسي، نرى على النقيض حالة من «الجهالة أو التجهيل» إن جاز التعبير، لكل ما يتصل بالشرق الأوسط، وقد بلغ الأمر أن الكتب المدرسية الأمريكية إما تتجاهل بشكل صريح الشرق الأوسط، أو تنقل صورة بالغة التبسيط والسذاجة، وحتى التشوه عن المنطقة وشعوبها. هل الأمر مقصود بالفعل بمعنى أن يظل المواطن الأمريكى بعيدا عن سياقات المعرفة والفهم الحقيقية لأحوال العرب، وحتى يكون أداة طيعة لاحقا فى يد الإدارات الحكومية المختلفة، تدفعه لتشجيع الحرب مرة، أو للاستياء من دولة ما مرة ثانية، وربما لتعميق الشعور بالفوقية الإمبريالية دائما وأبداً؟ مراجعة الذات الأمريكية المعرفية الأيام الماضية لم تتوقف عند النيويورك تايمز ذائعة الصيت، بل تجاوزتها إلى أحدى أهم الصحف الأمريكية، ذات الحيوية والتجدد «الهافينجتون بوست» والتى أماطت اللثام عند كارثة فكرية حقيقية تلم بالأمريكيين من جراء ما يمكن أن نطلق عليهم «سماسرة المعرفة» هؤلاء الذين يستخدمون قوالب نمطية فى التحليل والشرح والإيضاح عبر شاشات التلفزة الأمريكية، مستخدمين بضع كلمات عربية ينطقونها بلكنة أجنبية، لكنها كفيلة بأن تثير الحماس السلبى عند المستمع والمشاهد الأمريكي، كالجهاد والسنة، والشيعة، والحرب المقدسة. هؤلاء ليسوا أكثر من وكلاء لدول وجماعات مصالح يتم تصديرهم للرأى العام الأمريكي، ما يؤدى لاحقا إلى تسطيح المعرفة عند الأمريكيين بشعوب تلك المنطقة وثقافتها وتاريخها وحضارتها. فى هذا السياق من «الجهل الشديد» يضحى طبيعيا أن يعتقد عضو الكونجرس الأمريكى «سيلفستر رييس» رئيس لجنة الاستخبارات فى مجلس النواب، أن تنظيم القاعدة شيعي، وأن يذهب «ويلى هالون» رئيس فرع الأمن القومى فى مكتب التحقيقات الفيدرالية FBI، إلى أن إيران وحزب الله سنة.على أن المشهد يقتضى سؤالا من نوعية أسئلة «نقد الذات»، لا مجرد إلقاء عبء المسئولية والتقصير أو القصور فى الفهم على الآخر... هل نحن كعرب وكمسلمين شركاء فى تعميق حالة سوء الفهم هذه ؟.غداة الحادى عشر من سبتمبر كانت هناك فرصة ذهبية فى إقامة الجسور، وهدم الجدران، كان الأمريكيون على استعداد لأن يفهموا سر الذى جرى.. ماذا وراءه ومسبباته وكيف يمكن تجنبه فى مستقبل الأيام.غير أنه وبدلا من تحطيم الأساطير المغشوشة فى فوكس نيوز ذراع اليمين الأصولى الأمريكي. الخلاصة: لن تخلو واشنطن أبدا من أولئك الذين يقومون بتعريفك ورسم صورتك إن أنت تقاعست عن تعريف نفسك. لمزيد من مقالات إميل أمين