منذ نهايات الحرب العالمية الثانية وظهور النفط في أراضي العرب من جهة وقيام دولة إسرائيل من جهة ثانية والشرق الأوسط يمثل قيمة مضافة للسياسات الأمريكية حتي أضحت من المسلم به أن واشنطن يمكنها أن تسمح بحدوث أي متغير في تلك البقعة من الأرض سوي أمرين أولهما تأمين منابع النفط وإمداداته إليها من جهة والحفاظ علي امن إسرائيل والتي مثلت أهمية استراتيجية خاصة لأمريكا في زمن احتدام الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي هذا من جانب آخر . غير انه ومع السنوات الأولي للقرن الحادي والعشرين كان المشهد الشرق أوسطي يتبدل ويتغير بسرعة كبيرة بين مرحلتين أعقبتا أحداث الحادي عشر من سبتمبر الأولي تمثلت في مشروع الشرق الأوسط الكبير والثانية تبلورت في الحديث عن الشرق الأوسط الجديد وما بين المرحلة الأولي والثانية جرت مياه كثيرة في نهر العلاقات الأمريكية الشرق أوسطية وهذا ما نحاول استطلاعه في هذا التحليل الشرق الأوسط الكبير .. نهاية مرحلة في يونيو من عام 2004 كان نص مشروع الشرق الأوسط الكبير يقدم لقمة الثماني المنعقدة في الولاياتالمتحدة، كانت ديباجة المشروع تنص علي أن " الشرق الأوسط الكبير يمثل تحديا وفرصة للمجتمع الدولي ، أما التحدي فلأن النواقص الثلاث الرئيسية في بلاد الشرق الأوسط وهي الحرية والمعرفة وتمكين النساء قد ساهمت في ايجاد الظروف التي تهدد المصالح الوطنية لكل أعضاء مجموعة ال 8 وطالما تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة يقول المشروع سنشهد زيادة في التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة . ويبدو لزاما في هذا المجال الإشارة إلي أن مصطلح الشرق الأوسط الكبير إنما يعني عند صاحب المشروع جميع بلدان العالم العربي مضافا إليها باكستان وأفغانستان وإيران تركيا وإسرائيل . والمؤكد كذلك انه ليس ها هنا مقام تفصيل الكلام عن هذا المشروع الذي ملأ الدنيا صخبا وضجيجا لكن إشارة عابرة إليه تقودنا إلي الحديث عن المرحلة التي تليه . ولعل أهم ما طرح في مشروع الشرق الأوسط الكبير " الذي كان " إنما يتمحور في نقطتين أساسيتين الأولي هي الديمقراطية والثانية هي الإصلاح الديمقراطي ويصف المشروع الديمقراطية والحرية بأنهما ضروريتان لازدهار المبادرة الفردية لكنهما مفقودتان إلي حد بعيد في أرجاء الشرق الأوسط الكبير . وقد رأت مجموعة الثماني إمكانية تقديم يد العون للإصلاح الديمقراطي في المنطقة عبر التزام مبادرات ومشروعات متعددة منها مبادرة الانتخابات الحرة والزيارات المتبادلة والتدريب علي الصعيد البرلماني ولا سيما تدريب النساء علي أعمال القيادة العمومية في الوظائف الحكومية إضافة إلي المساعدة القانونية للناس العاديين ومبادرة وسائل الإعلام المستقلة لتشجيع حرية الصحافة والإذاعة ناهيك عن تنشيط المجتمع المدني ومبادرات التعليم الأساسي وبناء المجتمع المعرفي وتوسيع الفرصة الاقتصادية ومبادرات تمويل النمو وأخيرا مبادرة التجارة من خلال الانضمام لمنظمة التجارة الدولية وتسهيل التجارة البينية ورعاية الأعمال وإنشاء المناطق التجارية . وللموضوعية نقول إن مبادرات الشرق الأوسط الكبير والتي جاءت تحت عناوين ضخمة وفخمة مبهرة للعيون في حد ذاتها كانت ولا تزال تمثل نوايا وطوايا طوباوية تميل إلي السياسات المثالية أكثر منها إلي الواقعية ولم يكن هناك اعتراض بشأنها اللهم إلا الاعتراض علي محاولة إقحام إسرائيل في هذه الحزمة من الدول الرافضة لها بسبب سياساتها العنصرية . غير أن واقع الحال لا سيما بعد الغزو الأمريكي للعراق قد عرقل هذا المشروع والمعروف ببصمته الأمريكية أكثر من أي بصمة دولية أخري لأي من مجموعة دول الثماني أضف إلي ذلك أن المحاولات التي جرت فيما يمثل إرهاصات تجارب الديمقراطية البحتة من خلال صناديق الانتخابات قد قادت إلي ردود فعل عكسية تمثلت في ظهور تيارات دينية غير مرغوب فيها لا علي الصعد المحلية و الدولية سواء بسواء . أضف إلي هذا كله أن الدعم الأمريكي لإسرائيل في غزوتها العسكرية الفاشلة للبنان في صيف عام 2006 قد افقد الطرف الأمريكي أي مصداقية وأبطل هذا الدعم أي احتمالات للمضي قدما في شراكة بين الولاياتالمتحدة ودول الشرق الأوسط والتي أضحت اليوم تنظر بشك وريبة لكل ما هو أمريكي وبات المشهد يحمل في طياته عند الكثير من شعوب المنطقة مسحات من صراع ديني وكان المقصود بالهجومات الأمريكية الإسرائيلية هو الإسلام والمسلمين. ومع تسارع الإحداث في المنطقة جهة البرنامج النووي الإيراني واحتمالات التصادم العسكري أضحت فكرة الشرق الأوسط الكبير ولاشك من أفكار الماضي سيما حال اندلاع اللهب في المنطقة وهو الأمر الذي لا يستبعده كثير من المراقبين . ومع هذه الصورة السلبية للعلاقات الأمريكية الشرق أوسطية بات الحديث عن نهاية الحقبة الأمريكية في الشرق الأوسط وظهور شرق أوسط جديد والحديث هنا لواحد من رجالات السياسة والفكر الأمريكي المتنفذين . الشرق الأوسط الجديد ونهاية الحقبة الأمريكية كانت مجلة الفورين بوليسي " السياسة الخارجية " الأمريكية ذائعة الصيت في عددها الصادر في نوفمبر الماضي تحمل رؤية تحليلية لريتشارد هاس الدبلوماسي والمفكر الأمريكي ورئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية في نيويورك والذي استهل تحليله الواسع بالقول " لقد انتهي زمن الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط وبدأت حقبة جديدة في تاريخ المنطقة الحديث .... حقبة سوداء يرسمها ممثلون جدد وقوي جديدة تتنافس علي النفوذ وحتي تستحوذ واشنطن عليها فسوف يكون عليها أن تعتمد علي الدبلوماسية أكثر من اعتمادها علي القوة العسكرية . وحديث المقدمة يدفعنا للدخول في عمق أطروحة هاس حول جدلية العلاقة الأمريكية الشرق أوسطية والتساؤل بين يدي المشهد ما الذي دعا الرجل للقول بانتهاء هذه الحقبة بعد اقل من عقدين من ترسيخ حضورها في أعقاب السلام المصري الإسرائيلي والذي تم بمباركة ورعاية أمريكية . يري هاس أن هناك عدة عوامل بعضها هيكلي وبعضها أوجدها اللاعبون أنفسهم وكان ابرز هذه العوامل قرار إدارة الرئيس بوش مهاجمة العراق في 2003 وأدارتها للعملية وما نجم عنها من احتلال وكانت إحدي ضحايا الحرب عراقا كان خاضعا لهيمنة السنة والذي كان قويا وذا حافزية قوية بما يكفي لتشكيل توازن مع إيران الشيعية وظهرت التوترات السنية الشيعية التي كانت هامدة لبعض الوقت إلي السطح في العراق وفي كل أنحاء المنطقة وأحرز الإرهابيون قاعدة في العراق وطوروا فيه مجموعة جديدة من الأساليب للتصدير وأصبحت الديمقراطية في كل أنحاء المنطقة مرتبطة بفقدان النظام العام وانتهاء التفوق السني . وكنتيجة طبيعية لذلك تعززت المشاعر المناهضة لأمريكا وهي مشاعر ملحوظة وبتقييد جزء كبير من الجيش الأمريكي في الحرب تقلص النفوذ الأمريكي علي نطاق العالم وعند هاس انه من مفارقات العلاقة بين أمريكا والشرق الأوسط أن الحرب الأولي في العراق والتي يري أن الضرورة فرضتها قد شكلت بداية الحقبة الأمريكية في الشر ق الأوسط بينما عجلت الحرب الثانية علي العراق عام 2003 والتي اسماها حربا بالاختيار بنهاية هذه الحقبة . أما عن العوامل الأخري التي عجلت بنهاية تلك الفترة فمنها موت عملية السلام في الشرق الأوسط والتي وقفت عند حدود كامب ديفيد من عام 2000 إبان المحادثات التي جرت بين ياسر عرفات وإيهود باراك برعاية بيل كلينتون مما ساعد علي ظهور حماس وتهميش دور واشنطن وهو تحول عززه غياب ميل إدارة بوش إلي القيام بدبلوماسية ناشطة في هذا الإطار لأسباب كثر من أهمها انشغاله بقضية الحرب علي الإرهاب . ومما لاشك فيه أن هاس كان يدرك ما للمد الراديكالي من حضور في الشرق الأوسط بعد أن فتحت الساحة السياسات الأمريكية لممثليه أبوابها من خلال القول بالديمقراطية دفعة واحدة وغابت التيارات السياسية الأخري كاليسار ناهيك عن تضاؤل أحجام الليبراليين والعلمانيين. وعنده أن عدم مساهمة الأنظمة العربية التقليدية عمليا في مواجهة إغراء الأنظمة الإسلامية الراديكالية قد ساعد كذلك علي إنهاء الحقبة الأمريكية في الشرق الأوسط . ويخلص هاس في رؤيته للعوامل التي أدت إلي هذه النهاية السريعة للحقبة الأمريكية للقول إن العولمة بدورها قد لعبت دورا واضح المعالم في تغيير المنطقة فالأمر حاليا اقل صعوبة أمام الراديكالية للحصول علي التمويل والأسلحة والأفكار والمجندين كما أن ظهور وسائل الاعلام الجديدة وعلي رأسها التليفزيون الفضائي حول العالم العربي إلي قرية إقليمية وسيسها فكثير من المواد التي تعرض مشاهد العنف والتدمير في العراق وصور السجناء العراقيين والمسلمين الذين تساء معاملتهم والمعاناة في غزة والضفة الغربية في لبنان زادت من نفور كثير من الناس في الشرق الأوسط من الولاياتالمتحدة ونتيجة لذلك فان الحكومات العربية تجد الآن وقتا صعبا في التعامل مع أمريكا ويتضاءل النفوذ الأمريكي في المنطقة .