(1) من ذا الذي يرتب النطاف في البطون، والتماعات العيون، ويعيد الدنيا إلى فراغها القديم.. كأنها بدء الحياة؟ سأل الجالس فوق الدكة صفوف القاعدين. بعد صمت قال أحدهم.. أبي وسائر العمال. قال آخر.. يناير والكلمات. وثالث.. يونيو ورغيف الخبز. صاح الجالس مكفهرًا.. من خلقه هم الأبطال، ليس كمثلهم بشر. اختارهم الله الأعظم والأنجى من نار جهنم. فأين أنتم من الأفذاذ الأوائل!. أنت أيضًا خلقته سيدي. لم تخلقه غلظة وجه أو صوت أو لمعة سكين. خلقه من تقدست يداه. إذ يدس الساندوتش على عجل بين صدره والرداء. ويحكم الكوفية ليلحق بقطار السابعة. ويعود آخر النهار بعشر الرزق الذي سجله له الله في دفاتره. خلقته المرأة التي تشبه أمي. من جاعت ولم ترهن حلمتيها لدى حفنة قمح. تحسن الظن لا تزال بأحشائها. وببدايات الأعوام. هما من أعدا لنا اليابسة. وزقا الفراغ قليلًا باتجاه السماء. ليتسع المدى لحبونا وركضنا، ولقمح جديد. غير أنهم حطّوا. ذات غفلة في أردية سود وأعلام سود.. لم يجدوا كهلًا يصطحبونه أوشيخًا يلهون بذاكرته. لم يجدوا امرأة يبتدعون من عانتها منفضة أو يتخذون، من بؤبؤ عينيها شاخص عتمهْ. لم يجدوا ما يقتات السكين به. أو يتغذى تاريخ الأبطال عليه مختبئًا كنت برحم من كلمات الله. أتخفّى في هيئة كلمهْ. وأغني.. قولوا لعين الشمس الشعب يريد كرامته واللقمهْ لم يجدوا ما يتكئ الطاغية عليه ليباهي عُبّاد التاريخ به، ويعلمنا لقطاء التاريخ الحكمهْ. ما أكثر ما فشلنا، فكان أن غنينا للفشل. ثمانية عشر يومًا نُغني أغنية.. لا تطفئ سيجارتك في ذراعيَّ وصدري، فهما ليسا لي. لا توصل خصيتيّ بالكهرباء. فهما ليسا لي. لا تسلبني قمحي والكبرياء. فهما لها. ولا تفقأ عينًا ليست إلا بوصلة تتبع وجهًا. ثمانية عشر محفلًا داميًا، لنستريح في اليوم التاسع عشر. استراح الله لأنه الله. وما كان لنا أن نستريح. فالفضاء لا تزال تنقصه أقواس قزح من حجارة. والسماء تنقصها الكلمات إلى أن جاءوا من جديد. أرديةٌ سود، ولحى وسكاكين. تتقدمهم رايات سود. جعلوا من دُبر صبي فتحًا، ومن دبر امرأةٍ غمدًا للراية. وابتدعوا ما يتغذى تاريخ الأبطال عليه. نفطًا، غلمانًا، دككًا عالية وبنوكًا وصراخًا. مأخوذا كنت بنهديها في الميدان. نتدثر بصحائف من كلمات الله. نغني.. الشعب يريد ويحب الحياة. رأينا الله معًا. يتدفق من أوردة الأسفلت. ومن أرض حبلى بالكلمات اليومية.. عيش، حرية. وكان الخيل يمزق شريانه. ويصهل بالألم كآخر أغنية. تحرير يا تحرير.. يا من أغْوَتك اللغة وسحر الفعل الماضي ورجع القافية. لتحرر كل هواء الرئتين. أجمل ما فيكَ فيها. أجمل ما فيها فيَّ، وأسوأ ما فيك فينا. أما من هتْفة أخرى تغير من مسار رصاصة. أو تبطل فعل الغازات والكلمات الموروثة. حتى يلد الأسفلت، أرغفة محشوة بالأغنيات. وبالشهوات بهيئات بشرية!. لتعيد تعريف الإنسان. بغير اجتهاد فلاسفة. ككائن فقير، كامل الوسامة. نصف حالم، نصف جائع، ثلاثة أرباع يتيم. يمعن في براءته كلما أوغل في المخازي. يجهر بالفرحة كلما طالع أنثى من بعيد. لقدميه كل الطرقات. يحاول أن يجعل من عقرب الثواني خارطة للدوران. في ساعات أُتخمت بالزمن بغير ضرورة. ضمن التعريف أيضًا.. نحيف، نحيف للغاية. ذو نظارة. يهز سماءً وأراضى وليس بمقدوره أن يوافي من بادلته التحية. له عينان أدْمنتا طبع الوجوه. وقلب جربه كثيرًا ولم يفلح في فض بكارة قلبه. منحه كثيرًا لمن وعدته باللون الأزرق. ولصديق بادله السجائر بالضحكات.. مرتبة لا يبلغها سوى بشري خالص. يسقي الأسفلت هتافاته والشهوة. ويبكي إذ تتقلب فيه الألوان. يغني أغنية المعتصمين. ويشير إلى سترته. الله هنا فصوبوا.. ها أنذا. في منتصف الليلْ، لما أسرعت الخطواتْ. أفرّق أكواب الشاي على أطراف الميدان. وأختص الفتياتْ. ما كنت أخاف الجندي. ولا البزة ذات النجمة فوق الكتفين. والرشاش الدوار على العربة. بل كنت أخاف أن يأخذني دفء عيونكِ من هذا الليل العاري المبتلْ فأقف.. كي أتأملْ (2) لسوف يفتتح الدمُ هذا الصباح، فتقدموا. ترى فيم هدير الجموع وزعيمها الملثمُ أبريء أنا أم مدانْ متى أُنزل تمثال الچنرال ولمن تمثال الأشوه ذي اللحية. يشهر خنجره ويتمتم إذينهضه المارة بالأحبال، ليرنو من علياء عمامته، في قلب الميدانْ!. إنسان الكهف الخائف من صورته في الماء. يرسم صورة ميدان التحرير على جدران الكهف. في نوبات حنينٍ للأسلاف. لا تأويل لنص الميدان اليوم. فالقبضات.. عُقد في أحبال من نور تصل السماء بالأرض. ولقطاء التاريخ، هم لقطاء التاريخ. والهواء.. رفيف فراشة فوق ضفيرة تهتز. أفي هذا تأويل؟. الأحجار.. هتافات غلّفتها الدماء. والشجن.. دم يسعى لملء مساحة شاغرة بين جسدين. بينما الثرثرات الجانبية غذاء لأنسجة أوشكت على الضمور. أفي هذا أي تأويل، أم تعريف للأشياء. الميدان.. رحم يحاول أن يدرك ما فاته من حجارة. والرصاص.. آلة لتمزيق الهواء بين فوهة وجبهة ساخنة. والفضاء.. لا غير أصداء أغنية ترمم ما انفقأ من عيون. أما الدماء.. فإيقاع لم يورده كاهن في صلاة. الدماء.. سائل أخضر اللون يحرر بطولات الكتب من سمعتها السيئة. لا دم في صلاة قيام. لا دم يرجو إصبعًا أن تدوس الزناد. أو يوقف حنجرة عن هتاف. للدماء مساراتها، وللعشب منطقُه، وللفصول أوان. كي لا يكف يناير عن تمدده في بطون الشهور. لينهي العصر البيلوسي، والحجري، وعصر النفط. وعصر الأسلاك المشحونة بالكهنوت الأرضي. ويجيء عصر يناير بشريّ بالإنسان. مراتب لا يبلغها صوفي أو قديس إلا على أسفلت الميدان. يونيو، هو ما يبقى من شهر يناير في كل مرة. غضب يتخذ كهيئة عينين. بارود يأكل بارودًا. رفْض يتخفّى في هيئة آلهة أرضية.. رغيف أو ضحكة طفل أو حتى أغنية. لا يعرف يونيو ذلك الجزء الخفي من يناير إلا بمطلعه المراوغ مثل حبر الأقلام. يظل حبرًا حتى يعمل سن القلم ليعيد كل شيء إلى أصله الذي خلقه الله عليه. طائرًا يترك جناحيه بين الأقدام، ليضرب في الفضاء على هدْي الأغنية. ساريةً لعلم عليه شفتان لفم يبتسم. يظل حبرًا حتى يعيد صلصلة السيوف، وسبي النساء، والغلمان، كلما أراد أن يغضب الله منه. لا يُعرف يونيو، إلا كرغيف مكتظ بالشهوة. يتقاسمه اثنان بينهما كوب شاي. ويعيد كوب الشاي.. كوب شاي. ولحظة انفجار العين بالمطاط قداسًا توزع فيه الأرغفة. وتعود زجاجة الماء البارد رسالة بين غريبين أرق من مسكة اليد لليد. يونيو.. ملكوت أرضي. يمتلئ بطحين تنقصه الشمس. فالموت يجفل لاختلاط الشمس بالماء والطحين على وقع أغنيات النساء. فليكن يونيو وصيًّا شرعيًّاعلى القادم من أيام. وعلى نهود لم تنبت بعد. أشهد أن لا إله إلا الله. وأن آكلي الطحين غير آكلي الحياه. وأن الزاحفات الضواري الأضخم، والأغزر شعرًا، والأنصع أنيابًا، والأكثر غلظَهْ فترجّلوا عن تاريخنا. عن ظهورنا ترجّلوا. ودعوا عنكم القداس والموعظهْ. نصل السكين اللامع الرهيب حدها الأزرق الصقيل الغادر الكئيب يحدق في الرقاب بشهوة متلمظَهْ حدها الذي يناور العيون والدماء تراه.. فيم يفكر في تلك اللحظهْ. (3) ماذا يهم إن رمت يدٌ الحجر، وحوله خمسة أصابع. كي يتزن الهواء العالي بين رجة الهتاف والهتاف. أو أعاد الغازُ المعبأ بالدمع والفلفل الملكي ترتيب وجه جميل. ماذا يهم؟ إن أفتى الشرطي في أمر عين. وإنسان الكهف في أمر الأخرى. ما دامت البنت قد واعدته على كوب شاي. وبعض من الخبز وأنابيب البلازما وضمادات الرأس، والضحكات. هو الماء، وهذا وجهها العشبي يكشّر عن حلمه. بملامح أعاد الميدان ترتيبها بأكواب الشاي والبقسماط والوجه الطري. لكي يقول الماء للوجه المليح.. كن وصيًّا أيها الوجه على كل الشهور. ويقول للصدر النحيف.. لا أعذار لديك. قد مستك من الآن الكلمات اليومية. عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية... إلى آخره. فماذا يهم؟.