مددوه وسط الجموع وقيل.. صلوا له. قد وقع على وجهه ساعى الموت بالأحرف الأولى من مخبئه فوق السطوح، ثقبا فى الجبهة. فى سعيه لأن يتصيد الكلمات الطائرة.. كرامة، حرية.. عدالة اجتماعية. صلوا له.
مسحت يد الدم، فاندفع دم آخر. وابتسم الفتى مفتوح العينين. انحنيت أقبّل وثيقة يناير على وجهه. فلم يشح عنى، أو يشتمنى معابثا كما توقعت. تلك إرادته. الإرادة أن يفعل الواحد منا أو لا يفعل. أو حتى يكتفى بابتسامة، لن تنال منها بنادق الرجال الملثمين فوق الأبنية. فلا كلمات لديهم، دربوها أن تمحو الابتسامات.
جاءت إحداهن ركضا من الضفة الأخرى للميدان. رفعت يده وتركتها. فأسقطها لها على الأسفلت طائعا. ولم يمد يده ليتناول علبة سجائرى من جيبى ضاحكا كصديق. لكنه اكتفى بالابتسام. تعبير لا تغفله عينا فتاة من عينين تلاحقانها.
بعدما كف عن هتافات كانت تغلف منها الجسد. فكان أن تقلصت وبدت مثل زنبرك ملفوف عن آخره. حيث لا موضع للوقار فى الميدان.
رغبت فى أن أعرف ماذا يعنى جسد ممدد، لجسد آخر يتقلص فوق أسفلت الميدان. غير أن الفضول غير الميدانى بدا بلا معنى لزنبركين. واحد يوشك على الانفلات، وآخر يبدأ الامتلاء. فقد كانت تمارس طقسا وثنيا مليئا بالأسرار.
وطبعا لا ترى أحدا من هذه الحشود. التى أطلقت نصف دمائها فى الميدان. ولم تصل بعد إلى أية فضاءات أبعد من ابتسامة، يتطاير فوقها شعر فتاة. على الأكثر يد بها سوار وخاتم، تمتد إلى صفحة وجهه كأم أنهكتها العذرية.
قلت لها فى الحقيقة لست متأكدا إن كانت سمعتنى أم لا أن هذا ليس وقت التحدث الرسمى باسم ديسمبر أو أغسطس. ولا باسم أية دماء لا تزال رهن العروق. دعى من لم تجف عن ملابسه غازات الشرطة أو رائحة يناير. أو تمح عن جلده بقايا عطر امرأة. من لا يزال يراسل النساء عبر النظر والابتسام. ويلاحقهن بما تبخر من دمائه. وبما يلصقه إلى ثيابهن من شهوات. تنضج فيهن كروم يناير من.. كرامة، حرية.. عدالة اجتماعية.
ظلا يتراسلان بالأعضاء على وقع ماء يناير ورصاصه. ويتدربان على مطالعة الفتنة الأرضية التى كم حجبتها الجنة. ليشع فضاء الميدان بكهرباء المادة التى عجنت منها مفردات الأرض. وأيدى الجموع التى ترسم أقواسا من حجارة مبللة بالدماء.
فدم يتبع من دم الأثر.
ودم يمدد أحمره أمام رصاصة ليبطلها،
ويهتف.. يناير جاء.
ليس فى الجنة من يناير أو فصول، أو غضب.
يشهر الله الخطايا فى يناير.
ويبدى تسامحه لدى انفصال نبوءتين.
فى يناير، يخلق الله الحجر.
ليجعل من البازلت والطوب المدبب
قولا شاعريا.
جفت الأقلام، وامحت الصحف القديمة.
فالدماء تضل وجهتها إلى الميادين،
لتضىء للأمطار مهواها،
إلى.. حيث البشر.
ولترشد حائرين إلى خارج حدود الجنة. ويظهر لهما أن الميدان أحلى. وأن الهتاف نوع من الخصب، فيعملان على استئناسه داخل الأرحام والعروق. مثلما تثوى بذور الرفض فى عصير الفاكهة المحرمة. فما يريانه دماء حقيقية.. وليست عطرا سماويا. تبذله الملائكة للمضطجعين الأطهار، فوق الأرائك فى خلو بال. لا يكدرهم جوع، ولا تربكهم شهوات.
فكان أن خرجا معا مشفوعين بمباركة الإله. الذى خلق لهما الميدان، ووصمه بالماء والابتسام والخطيئة.
خرجا برفقة العصاة، وصانعى الجنون من وراء الأسوار العالية. إلى ميدان لا تحده جدران أو مدافن. فقط القناصة، وصفوف من لابسى الأسود. وعيا معا أن الخلود توءم الموت. وأن الميدان حياة تلد موتا، وموتا يلد حياة. هنا لا ديمومة أو فناء. إنما مطر من الرصاصات المحشوة بتاريخ خاصمه الله. ودماء وارتعاشات أرضية. وهواء أرضى مشبع بالهتاف. يسعى إلى اتزان جديد، كلما ثقبته صلية من رصاص مدفع آلى. لملثم يحاول أن يثقب كل هواء المدينة. فى احتراف يليق بزعيم. لا بقناص فوق مدرعة. بينما يعلو فى سماء الميدان هدير الصلاة الجماعية ليتصيد الرصاص. ويتطاير الرصاص ليتصيد الكلمات. وتتطاير الكلمات لتتصيد الدماء من العروق. وتكثر الابتسامات ورعشات الأعضاء كى تتصيد الزمن. دورة كونية مرعبة تعلو فيها تراتيل المصريين المصطفين، تؤمهم امرأة إلى جوار رجل.
يا نار.. كونى بردا وسلاما. يا برد، كن دفئا ورغيفا.
أنى لى أن أحبل من بسمة شفتين، ومن ثقب فى الجبهة. يا ماء.. كن أوراقا خضراء، وعشبا وحشيا
لنا يغطى عورتينا. هذا غد عربى ينفذ من شروخ فى الهواء.
ومن اشتباك أيدينا.
أو تنتوى موتا إذا لجأنا إلى جرحك صاعدينا؟.
لا تغمضى العينين، فهذا وطن له شكل مدرعة ترقص.
وطن يشبه قول الزور. يأتيه العسكر من بين يديه ومن خلفه.
ويبتذل الجنونا.
فدع ابتسامتك هنا. ولمعة عينيك وثقب الجبهة. سيطوقونك بالزهور وبالمراسيم البهية.. بالمراثى والبنوك. ويرجمونك فى العشية. هذا أسفلت تنتسب إليه الأعضاء. فلا تحقن دماءك فى زجاجات التفاوض. كى لا تشد الخيط
ما بين ابتداء الكبرياء، والصلاة.. كرامة، حرية..
عدالة اجتماعية.
ختمت الملايين صلاتها الهادرة. وإذا الميدان يضطرب بالهتاف. الذى يرتد صرخات أنثوية وكائن جديد تدفع به عضلات الأرحام إلى الوجود. ليختلط الصراخ بالهتاف. والدماء بالمياه، برعشات الأعضاء، برجرجة الأسفلت. ويصطك الحديد بالحديد، لآلات تتغذى على الأبدان الفتية. فى هدير كونى هو من بدع الفصام، وتجليات انشطار النفس على نفسها. أغنية يلحنها الوجود مرة واحدة، وللأبد.
وإذا المضطجع مضطجع لا يزال. من أبدل بالزحام هويته. بعدما استعد ببسمة وثقب فى الجبهة أرقام أصحابه وصديقته فى قائمة تليفونه المحمول لا تزال. كيف يكون مات ولا تمحى الأرقام. بل ويظل هاتفه يرن فى جيبه بصراخ منغم.. الشعب يريد أن يحب الحياة. كول تون يتوالى فى تراسل بدائى بسيط. دونما رقابة أمن، أو رسوم إضافية توجبها لائحة الخروج من الجنة. فقط بمجرد ابتسامة.
هل هذا موت؟.
هل من الموت أن يضخ أحدنا فى ماء عين الآخرين ملحا جديدا له طعم التاريخ والأنوثة؟. أيكون شهيدا من يحرض الآخرين أن يكثروا من الحديث عنه. ثم يغافلهم، ليصالب الكوفية على صدره ويتمدد مبتسما فوق الأسفلت. وبثقب صغير فى الجبهة، يختزل المعجم إلى ثلاث كلمات، يعيد بها تصفيف اللغة. أيكون شهيدا من حرض يناير كى يتمرد على حكمة الفصول. ويجهر بجنونه الخاص. بأن يكف حنجرته عن الهتاف. على سبيل معابثة الفتيات. فتراهن وقد اندفعن فجأة تغطين أنفسهن بالأيدى لدى توقف الهتاف. ثم ليضىء الأسفلت بالأخضر النيونى. كأنما نحن فى بدء الخليقة.