غداً يقيم الأهرام احتفالاً بعيد ميلاد الأستاذ هيكل. ولأن الشيء بالشيء يذكر. فقد حكى لى الأستاذ هيكل عندما كان يتحدث عن علاقات عبد الناصر بالمثقفين والثقافة فى الكتاب الذى أعددته معه: محمد حسنين هيكل يتذكر. حكى لى ملابسات زيارة عبد الناصر للأهرام. قال لى إن عبد الناصر لم يحضر افتتاح الأهرام الجديد. قصدنا ألا يقوم عبد الناصر بافتتاحه. لأنه ليس مشروعاً من مشروعات الدولة. والدولة لم تدخل فيه ولم تدفع له مليماً. جاء عبد الناصر للأهرام زائراً. وكانت الزيارة بناء على طلبه. وكان سبب طلبه أنه سمع كثيراً عن الأهرام. وكنا قد أصدرنا ملحق الأهرام الجديد. فأصبحت عنده رغبة فى الحضور لرؤية الأشياء التى سمع عنها عن قرب. كان عبد الناصر يعرف ويدرك أننى لم أطلب منه أى امتياز للأهرام. كان يعرف أن موارد الأهرام من النقد الأجنبى هى التى تستعمل فى سد مطالبه من العملة الصعبة. لم نطلب أى مبالغ من وزارة الاقتصاد ولم نطلب من أى جهة أخرى فى مصر. ولا خارج مصر طبعاً. قال لى عبد الناصر ذات يوم: مش حاتعزمنى أشوف الأهرام؟. وسعدنا بتوجيه الدعوة إليه. فدعوناه. سألته: كيف تم افتتاح الأهرام وقتذاك. قال لي: تم الافتتاح عندما تجمعنا جميعاً أمام باب الأهرام. عدت أسأله: من الذين تجمعوا؟ بُناة الأهرام الحقيقيون العمال والمحررون والموظفون والسائقون ورجال الإدارة ومسئولو الإعلانات. وفتحنا باب الأهرام ودخلنا جميعاً مرة واحدة. كان هذا هو الافتتاح. كل إجابة تلد سؤالاً. لذلك عدت ألح عليه سائلاً: متى تمت الزيارة؟ حكى هيكل: كان من المفروض أن تتم فى الثانى من نوفمبر. ولكنى تذكرت أن اليوم ذكرى وعد بلفور. فقدمناه لكى يكون فى الأول من نوفمبر. وأنا قلت فى ذلك الوقت وما زلت أذكر هذا حتى الآن أن اليوم تاريخ انطلاق الثورة الجزائرية بدلاً من أن يكون ذكرى وعد بلفور المشئوم. وكان ذلك فى سنة 1969. وهو آخر نوفمبر مر على عبد الناصر وهو يملأ الدنيا بحضوره الفريد والأخَّاذ. عندما جاء عبد الناصر رتبنا أن يمر على كل الناس حيث هم. بمعنى أن يدخل صالة التحرير والمحررون يعملون لحظة دخوله. يعملون بصورة طبيعية. وكنا حريصين على أن يرى الكفاءة وطريقة سير العمل كما تتم يومياً. بعيداً عن وجوده أو عدم وجوده. وفى هذا اليوم طلبت من الأستاذ أحمد بهجت وهو كاتب لديه حس قوى بالتاريخ أن يمشى معنا ويغطى الزيارة بالقلم. وكان هناك مصورون طوال الوقت. عبد الناصر جاء إلينا فى الساعة السابعة مساء. وخرج فى الساعة الحادية عشرة. وعندما خرج كانت معه الطبعة الأولى من الأهرام وصورة للزيارة فى الصفحة الأولي. وكان سعيداً بهذا جداً. ألَّح عليَّ سؤال عن إجراءات الأمن وما هى الجهة التى حددت من يحضر ومن لا يحضر؟ وهل كانت هناك تصاريح لمن رافقوا الرئيس فى كل مكان ذهب إليه؟ وهل علقوا على صدر من صافح الرئيس بادجاً؟. أدهشنى ما قاله هيكل من أن الأهرام كان مسئولاً عن الأمن. ومن الذى يحضر ومن الذى لا يحضر. ومن الذى يتكلم مع الرئيس. لأننا لو سمحنا بدخول الأمن بالطريقة التى عاصرتها حضرتك. كانت الزيارة فقدت الكثير من تلقائيتها ودلالاتها ورموزها. ثم إنه لم يكن فى مصر عبد الناصر أمن بالطريقة التى اتبعت بعد ذلك. ثم إنه كان هناك ثانياً مسألة مهمة تخص فلسفة جمال عبد الناصر من وراء الذهاب إلى مثل هذه الأماكن. إنها لم تكن مجرد زيارات يقوم بها لهذا المكان أو ذاك. أكثر ما كان يسعد عبد الناصر ويفرحه ويوفر له حالة من الحبور الإنسانى بعد أن يعود من أى زيارة أن يشعر أنه قد لامس الناس ولمسوه بشدة. أن يحدث ذلك اللمس المقدس حتى لو كانت هناك «خربشة» فى يده. أكد لى هيكل أن هذا الكلام ليست فيه أى مبالغة. كان يشعر أن هذا هو الأثر الذى تركه عليه الناس. وأن أهم ما يقوم به فى حياته لقاؤه الحى والمباشر مع الناس أن يشعر بملامسة الناس جسداً بجسد. أن يشعر أن الشعب ليس معنى مجرداً. ولكنهم أنفاس ودم ولحم. لقد كان يتهمنى دائماً بالبعاد عن الشعب. كان يقول لى انزل وتعامل مع الناس مباشرة وجهاً لوجه. حكى لى هيكل زيارة قام بها للمنصورة مع عبد الناصر. وكيف عاد بمجرد الوصول للمنصورة بعد أن ذاب عبد الناصر وسط الناس. فركب هيكل سيارته وقال للسائق: اطلع على القاهرة. غضب عبد الناصر كثيراً عندما بحث عن هيكل ولم يجده. واتصل به معاتباً. فقال له هيكل: إن الناس تجمعت حولك وأنا ظللت فى الآخر فى المحطة. فقررت العودة. نعود لزيارة عبد الناصر للأهرام. أكد لى هيكل أنه لم تكن هناك أى إجراءات أمنية من أى نوع. وعبد الناصر دخل الأهرام ومعه أنور السادات ومعه محمد أحمد ومحمود فهيم. الذين لم يكملوا الجولة حتى نهايتها معه. عدت ألح على هيكل بأسئلتي: ألم يكن معه فى الزيارة رئيس الوزراء ورئيس مجلس الأمة ووزير الإعلام ووزير الداخلية ورئيس هيئة الاستعلامات. ألم يكن فى استقباله لحظة وصوله للأهرام محافظ القاهرة؟ ومحافظ الجيزة؟ ووزير الحكم المحلي؟. قال لى هيكل: إطلاقاً. لم يكن هناك أحد من هؤلاء. لم يكن هناك أى كلام من هذا. هو وأنور السادات فقط. وأنا كنت فى انتظاره تحت أمام مبنى الأهرام. عندما أتى دخلنا من باب الأهرام وطلعنا إلى مكتبى أولاً. جمال عبد الناصر كان عنده غرام بالصحافة. وعندما دخل مكتبى جلس على المكتب وقال إن هذا هو العمل الوحيد الذى كان يرغب فى القيام به. وهنا أدرك شهرزاد الصباح. فسكتت عن الكلام المباح. لمزيد من مقالات يوسف القعيد