من بين كل الجدران المصمتة خمدت كل الأصوات وتلاشت منها الحياة وخمد صوتي مع من خمد وكادت روحي تفارق جسدي من هول المصيبة وتعلقت عيني بتلك المرأة التي جعل الله الجنة تحت قدميها وكيف هانت عليها نفسي ولقبتني «باليتيم» رغم أن والدي مازال حيا يرزق وكيف هوت إلي طريق الرذيلة ولم يرتجف لها جفن من ابن عمرها ذى العشرين ربيعا. وتحولت أمامي إلي نبت فاسد عطن لابد أن يقتلع من جذوره وتراءت لي مثل وباء أو طاعون لابد من القضاء عليه والتهمت نيران الانتقام جسدي وقررت أن أسطر بيدي شهادة وفاة من حملتني بين أحشائها تسعة أشهر حتي لا تكون وصمة عار في جبيني أبد الدهر وبعد أن كانت دائما أنيس الوحشة تحولت إلي عدو غادر لابد من قتله. لم يدر بخلد طالب الثانوي أنه مازال في مسلسل أحزانه حلقات ناقصة وأن يديه سوف تتلطخ بدماء أمه وأن القدر سيظل عابسا في وجهه أبد الدهر وأنه طوال سنوات عمره كان يتشبث بحطبه تسبح علي مسطح بحر هادر حتي جاء اليوم الذي انكسرت فيه تلك العصا الهشة وبات وحيدا في دنيا محفوفة بالهموم. أوقعه حظه العثر في براثن أم احترفت السير في الدروب المعوجة العتمة وتمردت علي الحياة وكانت أول ثورتها علي شريك العمر الذي كان يتفاني لارضائها ويركع تحت قدميها لينال كلمة واحدة منها حتي جرعته كل كئوس المرارة والألم مما دفعه لتطليقها إلا أن لهفته علي صغيره كانت تجبره علي إعادتها لعصمته حتي وصل عدد مرات الطلاق إلي ثلاث ولم يجد الزوج البائس أمامه سبيلا سوي اللجوء إلي »محلل« يتزوج مطلقته ثم يعيدها لعصمته. ارتجفت أوصال الزوجة اللعوب لصديق الزوج »المحلل« واتفقت معه علي استكمال حياتها في كنفه ووقع الخبر علي الزوج المقهور كالصاعقة وكاد أن يفقد عقله عندما علم أن طفله الوحيد سوف يرحل عنه ويتربي في أحضان زوج أمه توسل لزوجته ان ترحل إلي حيث تشاء وتأخد كل ما يملك بشرط أن تترك له فلذة الكبد إلا أن قلبها العليل كان أشد قسوة من الحجر واستعانت بزوجها الثاني وانهال الاثنان ضربا علي شريك العمر ولم يتركاه إلا بعد أن اصيب بالشلل. استقلت الزوجة القطار بصحبة طفلها وزوجها وتركت مدينة الإسكندرية وشدت الرحال إلي القاهرة وعندما كبر طفلها أوهمته أن والده توفي في حادث سيارة وزرفت دموع التماسيح علي وجنتيه وهي تحتضنه وسردت له القصص الخيالية وكيف انها كانت تصلي في محراب أبيه الراحل وانها غمرته بالسعادة طوال سنوات زواجهما وأنه مازال مسكونا داخل قلبها إلا أنها اضطرت للزواج من ذلك الرجل حتي يكون لهما الستر والسند والحماية وصدق الصغير أكاذيب والدته وسارت به الحياة حتي فوجيء بها تخبره أنها لا ترغب الاستمرار مع ذلك الرجل فقد أرهقه المرض وبات غير قادر علي العمل ولم يعد يمطرها بالأموال والهدايا وأصبح مثل الأرض البور لم تنبت ولم تعد ثمارها مشتهاة. لم يدرك الصغير كلمات أمه فهو عود أخضر لم يشتد وفوجيء بزوجها يرحل عنهما وبعد أربعة أشهر تزوجت من آخر يمتلك عددا من المحال التجارية وأموالا لا حصر لها وتحول البيت الصغير إلي كباريه زبائنه تلك الأم اللعوب ترتدي بدل الرقص وزوجها الذي أدمن المخدرات وطفل لم يتجاوز عمره الحادية عشر عاما. مرت السنون وكبر الصغير حتي بلغ العشرين من عمره وهو يتحامل علي نفسه بعد أن فاحت رائحة أمه العفنة في المنطقة وانها علي علاقات آثمة مع العديد من الرجال وانفجرت براكين الغضب داخل صدر طالب الثانوي عندما انفض كل زملائه من حوله وكانوا يعايرونه بسلوك أمه المعوج حتي أن زوجها الثالث خشي علي نفسه من فضائحها وطلقها ولاذ بالفرار. خاصم النوم جفون الأبن وبات بين خيارين حلوهما مُر هل يقتل من أوصاه المولي تعالي بحسن رعايتها وطاعتها ويغسل غاره أم يتركها تعيث في الارض فسادا ويرحل إلي حيث تقوده قدماه. تلفح الطالب بالصبر حتي جاء الخبر الذي زلزل كيانه وهز وجدانه عندما علم أثناء مشاجرة مع أمه اللعوب أن والده مازال علي قيد الحياة وانكفأ علي قدميها يقبلها حتي ترشده عن مكانه وهرول إليه كالمجنون وكان المشهد أقسي من يوصف رجل في العقد السادس من العمر يسير بين حوائط شقة متواضعة علي كرسي متحرك وتتفرغ لخدمته سيدة في أرذل العمر تبين أنها والدته وأن ملك الموت غفل عنها لتخدم نجلها وارتمي الابن بين أحضان أبيه وهو يقبل كل ذرة في جسده وانهار من الدموع تتساقط من عين الأب من فرحة عودة فلذة الكبد وعلم الابن بقصة نذالة أمه وغدرها بشريك العمر وأنها اصابته بالشلل وهو في ريعان شبابه وأحرقت قلبه علي زهرة عمره وشبابه وقرر الشاب القصاص لابيه من أمه وجمع كل ما يملك من أموال واشتري فرد خرطوش وتسلل إلي غرفتها وهي نائمة واطلق عليها الرصاص حتي فارقت الحياة وتركها غارقة في دمائها ولطخ يديه ببقع من دمها وهرول لأبيه يزف إليه الخبر أنه ثأر له. لم تدم فرحة الأب البائس بابنه طويلا حيث تمكنت المباحث من ضبطه وهو يختفي بين أحضان أبيه المشلول والجدة تصرخ علي حفيدها القاتل رغم أنفه وأمام حازم اللمعي رئيس نيابة دار السلام اعترف طالب الثانوي بتفاصيل جريمته وأكد انها لو عادت للحياة لقتلها ألف مرة.. وأمر المستشار طارق ابوزيد المحامي العام الأول لنيابات جنوبالقاهرة بحبسه علي ذمة التحقيقات.