هناك واقعة تروى عن اللورد كرومر المندوب السامى البريطانى فى مصر حدثت مطلع القرن الماضى، بانه كان يحضر حفلا يحييه أحد المطربين ذائعى الصيت وقتها، جلس المطرب وخلفه التخت وبدأ فى (التلييل) المعتاد ثم انطلق يغنى بملء حنجرته منتشياً تارة، ومتأوها تارة أخرى فيما يشبه العويل أحياناً، ويشبه الفرح وبعض المرح فى أحيان أخرى، مردداً عبارة واحدة لا تتغير «ياناس هاتولى حبيبى»، ولمدة ساعة تقريباً وبلا توقف، وسأل اللورد كرومر أخيراً وقد نفد صبره عن معنى العبارة التى يرددها المطرب فترجموا له مايردده، فتساءل اللورد كرومر بدهشة واستغراب : «ولماذا لا يقوم من قعدته تلك ويحضر حبيبه بنفسه ؟!!..». وفى الواقع فلو ان العمر قد امتد باللورد كرومر أربعين أو خمسين عاماً أخرى لكان قد أدرك أن هذا المطرب صاحب «ياناس هاتولى حبيبى» كان يحمل فى ثنايا أغنيته نبوءة بنظام سيستحدث فى المستقبل وهو نظام «توصيل الطلبات إلى المنازل»، ومانعرفه باسم (الدليفرى)، وان جل ماكان يطالب به هذا المطرب فى أغنيته المستقبلية هو ان (يدلفروا) له حبيبه، أى أن يحضروه له حيث يجلس (دلفيرياً) جاهزاً.. وإذا تأملنا حولنا فسنجد أن الشعب المصرى وبشكل خاص فى كبرى مدنه مثل القاهرة والاسكندرية، هو أكثر شعوب الأرض استخداماً (للدليفرى)، وحينما ذهبت ستزاحمك فى الطرقات دراجات نارية ذات صناديق تسرع إلى كل مكان حاملة كل أنواع الوجبات السريعة لمطاعم شهيرة يفترض فى العالم كله أنها لاحتياج الغذاء السريع الجاهز خارج المنزل، وليس لأن يطلبها الناس فى بيوتهم، ويقود تلك الدراجات النارية شباب فى عمر الزهور يطلق عليهم اسم «الطيارين» بحكم أنهم يسيرون على وجه السرعة إلى جميع اتحاد المدينة حاملين إليها طلبات الدجاج بخلطاته المختلفة وشكائر (الهامبورجر) والسلطات و (البيتزا)، حيث تغطى المدن بشبكات من المطاعم والمحال وبأرقام مركزية للهواتف لتلقى طلبات الزبائن فى كافة أرجائها، ولا يقتصر الأمر على المحال الكبيرة فحسب بل استشرى فى جميع المحال، وإذا ماتوقفت عند بقالة صغيرة أو حتى محل صغير لبيع الخضراوات فى طريق جانبى ضيق فستجد البائع منشغلاً عنك بتلقى طلبات الزبائن عبر الهاتف.. وباعتبار ان مصر هى صاحبة الدعوة الى نظام (الدليفرى) التى أطلقها مطرب «ياناس هاتولى حبيبى» قبل العالم كله، فلقد حزنا فيه قصب التفوق حتى وصلنا به الى ذرى لا تخطر فى ذهن بشر، ويتمثل ذلك فى التعليم (الدليفرى) حيث هجر التلاميذ المدارس وأصبحوا يتلقون دروسهم الخصوصية فى منازلهم.. أما هؤلاء المعذبون فى الأرض من (موظفى الحكومة) فانظر إلى كيف يستخدمون (الدليفرى) لتلقى علب الكشرى و (سندوتشات) الفول والطعمية فى مكاتبهم.. أما المشكلة الكبرى فتتمثل فى أن مفهوم (الدليفرى) متغذيا بحالة من الكسل والخمول والبلادة العامة، قد تسلل إلى حياتنا ليشكل سلوكاً عاماً فى كل مناحيها، وتسلل بقوة إلى الحياة السياسية ونظام الحكم فى مصر بالاعتماد على الدولة فى كل شىء، وعندما كان الرئيس الأسبق حسنى مبارك يخاطب الشعب قائلا : «هأكلكم منين ؟!..» كان يتحدث باعتباره صاحب محل يقوم بتوصيل الطلبات إلى المنازل وليس رئيساً لبلد كان يوماً صاحبه أكبر حضارة عرفها التاريخ، أما نواب مجلس الشعب السابق والأسبق والأسبق منه فهم الأكثر تأدية للخدمات لأهالى الدائرة الانتخابية فى دهاليز البيروقراطية المصرية وحسب حظوتهم لدى النظام الحاكم.. وعندما قامت ثورة 25 يناير كانت بمنزلة إعلان عن نهاية عصر (الدليفرى) وان الشعب لن يقبل إلا أن يحكم نفسه بنفسه وبإرادته الحرة، وبصورة ديمقراطية وبرئيس وببرلمان منتخبين عوضاً عن رئيسه وبرلمانه (الدليفرى) سابق التجهيز الذى كان يعد له دائماً.. ولكن لان رءوس النظام تغيرت ولم يتغير النظام بعد، حيث يتغلغل مفهوم (الدليفرى) فى سلوك وعقلية الدولة العميقة العتيقة التى مازالت مصرة على أن تحل محل الجميع وتقوم بالتدخل فى كل شئ من أتفه الأمور إلى أكبرها شأنا، وهى نفسها تلك العقلية التى تفتق ذهنها عندما كثر الحديث الرئاسى عن الأمن الغذائى فى مصر فى السبعينيات، عن إنشاء جهاز الفول والطعمية، وتولت الدولة صنع (سندويتشاتها) وقراطيسها وبيعها عبر منافذها لعامة الشعب. وإزاء هذه العقلية بمفاهيمها الراسخة، يبدو الحديث عن «المجتمع المدنى» نوعا من العبث، حيث تقف الدولة بالمرصاد للمبادرات المجتمعية والفردية التى يقوم بها أفراد الشعب ومجموعاته خارج نطاقها، بل تثير الريب تجاهها وتعتبرها خروجا عن سيطرتها وتحكمها.. وهكذا تحول تعبير «المجتمع المدنى ومبادراته» إلى نوع من الوجاهة القولية و(الشياكة) المجتمعية على الأغلب صحافة وإعلاما، أما إذا تجاوزنا الحديث إلى الفعل فسنجد جميع العوائق أمام نشاطات المجتمع المدنى، وسيتم تفريغ مبادراته من محتواها، إما بالطعن والتشويه أو بالمصادرة، فكبار طيارى (الدليفرى) المحترفون فى دهاليز الحكومة وعلى رأس مواقعها القيادية قد اعتلوا صهوات مكاتبهم الراسخة عوضا عن الدراجات النارية لطيارى الوجبات السريعة من شباب مصر. وإذا ما لجأت أى مبادرات للمجتمع المدنى لأى من رجال الأعمال كما يحدث فى العالم كله. فلابد من إثارة الريب حولها وبأنها تجرى لمصلحة الفلول من بقايا النظام السابق على الأغلب الأعم. وإذا ما تلقت دعما ما من الخارج فلابد من التشكيك فيها واتهام منظمات المجتمع المدنى بالعمالة لدولة أجنبية، رغم أن عين هذه المعونات والدعم وبمبالغ طائلة تتلقاها الدولة بكل هيئاتها ومؤسساتها فى مجالات الصحة والتعليم والثقافة والرعاية الاجتماعية دون أن يشكك فى نزاهتها أحد.. أما إذا لجأت منظمات أو تتلقى الفتات الذى يكاد لا يساوى فتقابل باالرفض مع وضع كل العراقيل أمامها إلى أن ترضخ وتعود إلى أحضان الدولة من جديد، وتحت رعاية طياريها الكبار بمكاتبهم الفارهة، وتحت قيادتهم ودعمهم ليتم اغتيال مشاريع المجتمع المدنى ومبادراته. ولأن الشفافية غائية عموما عن إدارات الدولة، فيما يتعلق بالدعم الذى تقدمه لمنظمات المجتمع المدنى. فلابد من الاعلان عن حجم المكافآت التى يتقاضاها طيارو الدولة المحترمون فى مؤسسات الدولة مقابل توصيل (الدليفرى) المدعوم من الدولة إلى مستحقيه فى كل مجالات نشاط المجتمع المدنى ومؤسساته، واتصور أن اعلان ذلك بشفافية كاملة سيجعلنا نفهم لماذا تحرص الكثير من المؤسسات الرسمية فى الدولة العميقة العتيقة فى مصر على انتهاج هذه السياسة التى ترنو لأن تحل لكل أجهزتها البيروقراطية محل أى نشاط للمجتمع المدنى، وإصرارها على طمأنته بالفعل والقول: «خليك انت بس فى حالك والحكومة هتجيبلك حبيبك (دليفرى)لغاية عندك». أما الثمن الفادح لذلك فهو الحال الذى انتهينا إليه الآن.