آخر ما صدر عن موسكو من تصريحات رسمية حول "الموقف من مكافحة الإرهاب الدولى"، كان على لسان عميد الدبلوماسية الروسية سيرجى لافروف بقوله إن"موسكو طالما أعربت لواشنطن عن استعدادها للتعاون فى مجال مكافحة الإرهاب، لكن واشنطن كعادتها لا تمضى بأفعالها أبعد من الأقوال. كما أن وزير الخارجية الأمريكية طالما قال إن الولاياتالمتحدة سوف تعرض فى أقرب وقت ممكن الصيغة التى يمكن من خلالها أن تتعاون مع موسكو وبقية بلدان المنطقة فى تقييم ما يجرى وستحاول تحديد توازن المصالح من أجل البدء فى تصفية أخطار الإرهاب، لكن دون خطوات عملية لتنفيذ ذلك". هذا ما قاله لافروف فى ختام لقائه مع وزير خارجية مالى فى موسكو أمس الأول وهو ما يعكس حقيقة مواقف بلاده مما وصفه بالمعايير المزدوجة التى تنتهجها واشنطن والبلدان الغربية تجاه مكافحة الإرهاب، الامر الذى أماط اللثام عن أبعاده حين حذر من مغبة خطط الناتو حول تشكيل التحالف الدولى، الذى يقولون إنهم يقصدون به تصفية أخطار تنظيم "داعش"، فى حين أنهم يستهدفون ضرب المواقع السورية والنيل من نظام بشار الاسد. على أن ما قاله لافروف لا يمكن أن يعنى تخلى موسكو عن أحد أهم اركان استراتيجيتها الخارجية والدفاعية تجاه مكافحة الارهاب، محليا كان او دوليا، منذ جاء الرئيس فلاديمير بوتين الى سدة الحكم فى الكرملين فى نهاية عام 2000، بعد أن قطع شوطا مهما على صعيد مكافحة الإرهاب والحركات الانفصالية فى القوقاز والشيشان. وكان بوتين أكد هذا التوجه عالميا حين أيقظه الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش الابن من سباته يسأله الاذن فى عبور مقاتلاته عبر أجواء روسيا، ليفاجئه والعالم بانه يستطيع ذلك دون حاجة الى استئذان، بل وبارك فيما بعد ظهور قواعد امريكية مؤقتة فى كل من قيرغيزستان وأوزبكستان لخدمة القوات الامريكية المشاركة فى عمليات مكافحة الارهاب فى افغانستان، على الرغم من انها طالما كانت ولا تزال تعتبر آسيا الوسطى من اهم مناطق مصالحها الحيوية ذات التأثير المباشر على امنها القومي. بل ومضى الى ما هو ابعد حين سمح كذلك بوجود مركز خدمات للقوات الامريكية فى مطار اوليانوفسك داخل روسيا نفسها. تلك كانت مواقف موسكو تجاه كل المحاولات الجادة الرامية الى مكافحة الارهاب. لكنها وعلى النقيض من ذلك لم تكن لتوافق على أبعد من ذلك، وهو ما اكدته من خلال مواقفها الرافضة للعمليات الامريكية ضد العراق فى عام 2003وبعد ذلك فى مناطق اخرى كثيرة، خارج اطار الشرعية الدولية وبعيدا عن مقررات الاممالمتحدة، ادراكا من جانبها لحقيقة سياسات واشنطن وما تضمره من مخططات عدوانية فى جوهرها، بما فى ذلك محاولات التغلغل فى الفضاء السوفييتى السابق من خلال ما وصفته "بالثورات الملونة" ما كشفت عنه لاحقا حين اعلنت عن توجهاتها صوب ضم كل من جورجياواوكرانيا الى حلف الناتو. وبهذا الصدد يؤكد الكثيرون من الخبراء والمراقبين فى موسكو حول ان واشنطن «تدمر» بما تفعله فى اوكرانيا خصما من حساب المصالح القومية الروسية، كل ما سبق وتحقق على صعيد التعاون الدولى فى مجال مكافحة الارهاب. بل ويمكن القول ايضا ان ما تتخذه من خطوات لتصعيد المواجهة من خلال الاستمرار فى فرض عقوباتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية ضد موسكو لا يمكن الا ان يزيد من مساحات الاختلاف بين القطبين الاعظم، ويزيد من تفاقم الاوضاع على صعيد اى تعاون فى مجال مكافحة الارهاب محليا كان أو دوليا. وكانت موسكو توقفت كثيرا عند ما صدر من تهديدات عن "داعش" التى قالت بعزمها على التوجه بعد سوريا صوب الاراضى الروسية لتحرير الشيشان والقوقاز، والانتقام شخصيا من الرئيس بوتين، وهو ما انبرى الرئيس الشيشانى رمضان قادروف للرد عليه بأقسى عبارات التهديد والوعيد التى يبدو الجميع على يقين من ضرورة تناولها على محمل الكثير من الجد. ويذكر الكثيرون ما سبق وقاله بوتين فى مطلع حملته ضد الانفصاليين فى الشيشان، حول ان الحرب فى القوقاز جزء لا يتجزأ من الحرب ضد الارهاب الدولي. وكانت واشنطن والبلدان الغربية اضطرت الى النزول على ارادة بوتين والاعتراف بخطورة ما تقدمه وبعض البلدان والمنظمات العربية والاسلامية من دعم مالى وعسكرى لفصائل المقاتلين وممن كانوا يسمونهم المجاهدين، ممن انتقلوا من افغانستان الى الشيشان والقوقاز. بل وتراجعت عمليا عن الاستمرار فى هذا الدعم وهو ما ساعد بوتين الى حد كبير فى القضاء على الارهاب وتصفية رموزه الداخلية والخارجية التى كانت استطاعت فى وقت لاحق الوصول بعملياتها التخريبية والارهابية الى قلب العاصمة الروسية. ومن هنا يخلص الكثيرون من المراقبين فى موسكو ومنهم ليونيد ايسايف بروفيسور المدرسة العليا للاقتصاد، الى ان انشغال القطبين الاعظم ومعهما كبريات البلدان الغربية والعالمية بالازمة الاوكرانية، ووقوع بعض هذه الاطراف فريسة الرغبة فى الهيمنة والعودة الى سياسات القطب الواحد، لن يخدم فى نهاية المطاف سوى مصالح المجموعات والعصابات الارهابية، وينال من اهم ركائز الامن والاستقرار ليس فى اوكرانيا وحدها بل وفى الكثير من بلدان العالم وفى مقدمتها مناطق الشرق الاوسط وشمال افريقيا.