يتساءل الكثيرون اليوم .. ماذا بعد العقوبات ضد روسيا؟ هل يمكن ان يتراجع الرئيس بوتين عن قراره بشأن ضم القرم تحت تاثير هذه العقوبات؟. تساؤلات كثيرة تبحث عن اجابات بين ما قاله ارنولد توينبى حول «التحدى والاستجابة»، النظرية التى نراها تحدد ملامح سياسات الرئيس الروسى من منطلق قدراته على مواجهة المواقف الاستثنائية بردود افعال تفوق فى تاثيرها وقيمتها الافعال نفسها. نظرة سريعة الى ما حققه الرئيس بوتين من مكاسب لبلاده منذ جاء الى السلطة فى نهاية 1999 تؤكد انه لن يتراجع عن ضم شبه جزيرة القرم التى ثمة من يحاول التشكيك فى مشروعية ضمها الى روسيا. وكان الزعيم وعلى عكس اسلافه فى الكرملين وتحديدا ميخائيل جورباتشوف وبوريس يلتسين، وبدلا من النكوص الى الماضى ومحاولة اجترار احزانه والبكاء على اطلاله، مكتفيا بالتمسك باهداب الحاضر، انطلق بوتين الى تصفية تبعات اخطاء ذلك الماضي، ومواجهة تحديات هذا الحاضر، سعيا وراء مستقبل قال ان بلاده تستحق أفضله. وثمة من يجد فى ذلك انعكاسا ايجابيا لما وصفه ارنولد توينبى المؤرخ البريطانى الشهير فى نظريته "التحدى والاستجابة" التى تقول "أنه كلما ازداد التحدى تصاعدت قوة الإستجابة حتى تصل بأصحابها إلى ما يسمى ب"الوسيلة الذهبية"، والتى تتلخص فى أنَّ الحضارة تقوم من خلال مواجهة التحدى بسلسلة من الإستجابات". انطلق بوتين لا يلوى على شئ، يشد من ازره ما تراكم لديه من خبرات "ضابط الكى جى بي" ومن ملفات جمعها بحكم مناصبه السابقة، مستفيدا من كبوات نظرائه ممن كان يعرف انهم يضمرون لبلاده مصيرا مشابها لما سبق وحققوه مع الاتحاد السوفييتى السابق. فما ان نجح فى وأد احلام الانفصاليين فى القوقاز والشيشان، واعادة بناء البيت من الداخل، حتى شخص بكل قامته فى مؤتمر الامن الاوروبى فى ميونيخ فى فبراير 2007 ليقول برفضه لعام القطب الواحد وعدم جواز استمرار زحف الناتو شرقا. اعاد على اسماع "خصومه وشركائه" ما قاله مانفريد فيرنر امينه العام فى اعقاب حلف وارسو 1991 حول ان الحلف لن يتقدم خطوة ابعد من حدوده الحالية شرقى المانياالغربية!. وجاءت الازمة الاوكرانية لتوقظ روح التحدى لمواجهة مخططات الناتو والاتحاد الاوروبى وفضح حقيقة ان قائمة احلامهما المؤجلة لا تقتصر على جورجياواوكرانيا، وانما تستهدف ايضا تقويض امن واستقرار روسياوالصين، على غرار ما حدث مع الاتحاد السوفيتى السابق، وهو ما قاله صراحة فى خطابه الاخير الذى القاه فى الكرملين لدى تناوله مسألة انضمام القرم الى روسيا. وكان بوتين اوجز فى هذا الخطاب رؤيته التى تقول إن روسيا تكتفي بهذا القدر من ردود الافعال، لكنها تظل يقظة لما قد يتخذه «الشركاء»، من خطوات تستهدف التطاول على حدودها، معلنا ان «اوكرانيا خط احمر» لن تسمح بلاده لاى كائن كان بتجاوزه!. ورغم ان الخطاب اتسم بنبرة ايقظت فى نفوس مواطنيه اعلى درجات الحماس والوطنية والرغبة فى استعادة امجاد الماضي، الا انه كان يتضمن ايضا الرغبة فى التهدئة من خلال الاشارة الى احترام وحدة اراضى وسيادة اوكرانيا، رغم تلميحات حول احتمالات مصير مماثل للقرم فى المحافظات والاقاليم الواقعة جنوب شرقى اوكرانيا والتى طالما كانت جزءا من الدولة الروسية، وبما يعنى ايضا .. "ان عُدْتُم عُدْنَا". اذن.. ماذا بعد؟. هل تريد الدوائر الغربية ان يتراجع بوتين حتى يعودوا عن العقوبات وعن الضغوط التى تتصاعد يوما بعد يوم؟ هل هناك حقا من يتصور ان بوتين يمكن ان يعود عن قراره؟. الواقع الراهن يؤكد استحالة تراجع بوتين وهو الذى قال ان عدم الاستجابة لطموحات اهل القرم "خيانة". وكان اشار سابقا الى استعداد بلاده لقبول تعاون اوكرانيا مع الاتحاد الاوروبى شريطة ان يكون ذلك فى اطار ثلاثى يضم روسيا وهو ما سبق وعرضه على كييف والاتحاد الاوروبى منذ ما يقرب من ثلاثة اشهر. ما نعتقد فى انه قد يلقى قبولا لدى بوتين، يتمثل فى الاقتصار على عضوية اوكرانيا الاقتصادية فى الاتحاد الاوروبي، لكننا نكاد نجزم باستحالة استكانة بوتين لمخططات ضمها الى الناتو. وكان الرئيس الروسى قال صراحة انه لن يقبل باحتلال الناتو لسيفاستوبول القاعدة الرئيسية التاريخية للاسطول الروسى فى البحر الاسود. واقع اليوم يقول ان بوتين وبعد ان حقق مبتغاه، يرغب فى التهدئة وعدم المضى الى ما هو أبعد فى تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل، ما افصح عنه فى اجتماع مجلس الامن القومى الروسى اول من امس، حين قال بضرورة عدم تطبيق نظام التاشيرات مع مواطنى اوكرانيا حتى لو طبقت السلطات الاوكرانية ذلك بالنسبة لمواطنى روسيا، نظرا لان ذلك سوف يضرب بالدرجة الاولى مصالح الملايين من ابناء الدولة الاوكرانية. ومن المعروف ان قرابة ثلاثة ملايين اوكرانى يعملون فى روسيا، وتبلغ تحويلاتهم المالية ما يقرب من خمسة مليارات دولار سنويا، بل وقال بوتين بضرورة التريث تجاه اعداد قائمة مماثلة للقوائم التى صدرت عن الخارجية الامريكية والاتحاد الاوروبى بخصوص تجميد ارصدة وممتلكات عدد من الشخصيات القيادية الروسية المعروفة بقربها من الرئيس الروسي، رغم ما صدر عن وزارة الخارجية الروسية من بيان قالت فيه :"لقد حذرنا مرارا من أن استخدام آلية العقوبات أمر ذو حدين يمكن أن يلحق الضرر بالولايات المتحدة نفسها. وكان باستطاعة واشنطن أن تتأكد أكثر من مرة من أن استخدام هذه اللغة فى الحديث مع بلادنا شيء فى غير محله وغير بناء. ومن الضرورى الا يساور الشك احدا فى ان روسيا سترد بالمثل على اى تصرف عدواني". بيد ان بوتين لن يظل طويلا فى موقف الدفاع ، وهو الذى طالما اثبت براعته فى تحويل رد الفعل، ليس فقط الى فعل مساو له فى القوة ومضاد له فى الاتجاه، بل والى ما هو اكثر منه فى القوة وما يكتنف الغموض اتجاهاته. ولعله فى ذلك يتكئ على قدرات وحنكة دبلوماسية منقطعة النظير لعميد الدبلوماسية الروسية سيرجى لافروف احد اهم رجال الدبلوماسية العالمية ممن "دوًخوا" اقطاب الدبلوماسية الامريكية ومنهم كولين باول وكونداليزا رايس وهيلارى كيلنتون، والآن جون كيرى ونظراءه فى البلدان الغربية، استنادا الى خبرات طويلة فى الاممالمتحدة التى شغل فيها منصب المندوب الدائم لبلاده لما يزيد على العشر سنوات. من هذا المنظور نتوقف عند ما قاله سيرجى ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسية حول ان روسيا سترد على العقوبات التى فرضتها الدوائر الامريكية بمجموعة اوسع من الاجراءات لم يكشف عن مكنونها، وإن اشار الى ان المباحثات السداسية مع ايران حول برنامجها النووى يمكن ان توفر الوسيلة المناسبة للرد. واضاف قوله:" ان موسكو لا ترغب فى استخدام هذه المحادثات كعنصر فى زيادة المخاطر الدبلوماسية، وان الأهمية التاريخية لما حدث فى الأيام والأسابيع الماضية فيما يتعلق بضم القرم لا يمكن ان يقارن بما تفعله موسكو فيما يتعلق بإيران. واذا استعدنا ما سبق وحققته موسكو من نصر فى سوريا حين اجهضت مخططات الضربة الامريكية واستخدام القوة ضد النظام هناك فاننا نكون امام واقع يقول ان موسكو ليست فى هذه الحلبة وحدها. ونقصد بذلك التنسيق المستمر مع مختلف اللاعبين الدوليين سياسيا واقتصاديا، بل وعسكريا ومنهم الصين واعضاء مجموعة بريكس التى تضم ايضا الى جانب القطبين الاعظم الصينوروسيا كلا من الهند والبرازيل وجنوب افريقيا. وبهذه المناسبة كشف بوتين فى خطابه الاخير عن تنسيق غير مباشر مع كل من الصينوالهند حين وجه لهما علانية شكره على تفهمهما لسياسات روسيا تجاه هذه المسألة.