لم يكن غريبا أن أجد حارقي البخور يتصدرون للدفاع عن عمل درامي مشوه ك«سراي عابدين» ، استنادا إلى فهم قشري لمعنى الدراما وماهيتها، متعللين بأن ما يقدم هو دراما وليس كتاب تاريخ ! وبأن المسلسل «يسعى لتقديم حكايات مثيرة وجذابة وممتعة، قد تحمل قيما إنسانية أو أفكارًا يطرحها الصنّاع، والتي قد تلعب فقط لو رغب أصحابها دورا تثقيفيا تاريخيا، لكن إن لم يرغبوا في ذلك، فليس من حق أحد أن يزايد عليهم ويطالبهم بتغيير أهدافهم لتتماشى مع رغباته الخاصة». هى نظرة عليلة دون شك ودون أدنى وعي لدي قائلها بحدود العلاقة بين «مهمة المؤرخ ومهمة الفنان» ولذلك يجمل بنا أن نتريث بعض الشىء لنتأمل الفرق بينهما؛ فالمؤرخ ينشد الحقيقة التاريخية المجردة ، وهو في بحثه عن هذه الحقيقة التاريخية يحاول إعادة بناء صورة الماضي « كما حدث بالضبط» متسلحًا بمنهجه الاستردادي وقيود هذا المنهج الصارمة مسترشدًا بمصادره (ومن بينها الفن بطبيعة الحال) في محاولة لتحقيق هدفه في إعادة تصوير الماضي ، ثم هو من ناحية أخرى ، يحاول تفسير هذا الماضي من خلال الكشف عن العلاقة السببية بين مختلف الظواهر التاريخية، ومن أهداف المؤرخ أيضًا أنه يحاول كشف قوانين حركة التاريخ لكي تكون أداة في تفسير الحاضر واستشراف طريق المستقبل . أما الفنان فإنه حين يختار التاريخ مجالاً لعمله الفنى يضع نفسه رهن الحقيقة التاريخية في إطارها العام ، ويكون في حل من القيود الصارمة التي يفرضها المؤرخ على نفسه . كما أن الفنان في عمله الفنى يكون بعيدًا عن استخدام المنهج . إنما يرى في الحقيقة التاريخية شيئًا أشبه بالهيكل العظمى ، فيكسوها بخياله الفنى لحمًا ، وينفخ فيها من روحه الإبداعية ، فإذا الحدث التاريخي قد استوى كائنًا حيًا جاءنا عبر العصور ، ليس على صورته التاريخية الدقيقة ، ولكن في الإطار العام للحقيقة التاريخية، وإذا التاريخ بشخوصه وأحداثه قد أصبح يعايشنا في حاضرنا ، بل ويعبر عن هذا الحاضر بفضل الفنان الذي بنى بفنه (الراقى) جسرًا جعل الماضي والحاضر يتداخلان بشكل يصعب تحديد مداه ، وينبغى على الفنان ألا يلوي عنق الحقيقة التاريخية في سبيل الإبداع الفنى ، فإن ذلك يعد تزييفًا للتاريخ وينأى بالعمل الفنى عن خاصية أولية من أهم خواصه، وهى الصدق الفنى . وهو ما لا أرى أثرا له في سرايا عابدين بما فيها من تسطيح مبتذل فنيا ودلاليا. الصدق الذي نقصده هنا هو « الصدق التاريخي» الذي لا نراه متعارضًا مع «الصدق الفنى». إذ لا ينبغي أن يكون « الصدق الفنى» ذريعة للتنصل من «الصدق التاريخي» الذي يخلق غيابه آثارًا كارثية على المجتمع والإنسان والوطن ..بل وعلى الوجدان الإنساني بشكل عام. ويسهم في تقديم صورة مشوهة لأخلاقيات المجتمع المصري فضلا عن نمطية تعيسة في طرح صورة المرأة داخل« سراي عابدين»، معبرة عن وعي معاد لكل قيم التنوير والحداثة والتقدم. إذا كان الهدف من العمل الفنى الذي يتخذ التاريخ مجالا له ، هو بعث قيمة بعينها أو تكريس مفهوم ما، أو تجسيد مثل أعلى، أو حتى دغدغة مشاعر الفخر والاعتزاز القومي والوطنى، فإن « الصدق التاريخي» في تصورنا هو خير أداة لتحقيق هذا الهدف، بيد أن هذا لا يعني بالضرورة أن يكون العمل الفنى وثيقة تاريخية ، أو محاضرة علمية أو بحثًا في التاريخ ، لأن هذا يكون بعيدًا تماما عن «الفن» ولكن ما نقصده هو أنه لا يجوز للفنان أن يغير ملامح عصر ما، وأن «يمسخ» الشخصيات التاريخية مثلما حدث في «سرايا عابدين» الذي أمتلك قائمة من التحفظات والملاحظات السلبية عليه ربما أسردها لاحقا في مقال نقدي، أقلها مسخ تاريخ الخديو إسماعيل ، أحد شركاء النهضة المصرية بامتياز وتحوله لمحض حاكم عابث لا يملك رؤية ولا تصورا يليق بالأمة المصرية، أدى إلى إمحال الشخصية الفنية وتحويلها إلى مسخ شائه لا أكثر ولا أقل، متذرعًا بالصدق الفنى . ولكن من حق الفنان أن يخلق الشخوص ويصنع الأحداث الفرعية التي تحمل وجهة نظره وتكرس الأفكار والقيم التي ينشدها. وهو ما غاب عن الدراما الهابطة «سراي عابدين» خاصة أن فريق العمل أكد عدم خضوع الحلقات لمراجعة تاريخية من مؤرخين مصريين، فهل يحق لأى كاتب يتصدى إلى تاريخ بلد آخر ألا يهتم بتلك التفاصيل الأساسية التي تسابق العديد من النقاد الفنيين للدفاع عنها بدعوى أن المسلسل دراما وليس كتابا للتاريخ، رغم افتقاده للدراما وللتاريخ . لدي ثلاثة أسئلة أخيرة أترك الإجابة عنها للمدافعين عن «سرايا عابدين». أولا: إذا كان التاريخ هو ذلك الرّصيد القوميّ الموروث من قبل الخلف عن السلف. فما هي صور حضور ذلك المخزون في الدراما التاريخية (سرايا عابدين) ؟ وما هو دورها في التّعبير عن الواقع المصري المعيش ؟ ثانيا: إذا كان توظيف التاريخ يعتمد على مدى وعي المثقّف لتاريخ أمّته من جهة، وعلى وعيه بدوره التّاريخيّ من جهة أخرى، فهل استطاعت الكاتبة «الكويتية» في استلهامها للتاريخ أن تعي معطيات العناصر التاريخية في أبعادها المختلفة؟ وأن تعي واقعنا المصري المعيش الذي تحاول إعادة إنتاجه من خلال العناصر التاريخية المستلهمة في المنتج الإبداعي الدرامي؟ وثالثا: إذا كانت الرّوائيّة أو الكاتبة «الكويتية» حين تقوم بتوظيف التاريخ، وتقوم في الوقت نفسه بإثارة وجدان الأمة «المصرية» فما هي الطاقات التعبيرية والجمالية التي حقّقها توظيف التاريخ في عمل درامي هابط مثل «سراي عابدين» المستنسخ من الدراما التركية ؟ لمزيد من مقالات د.عمرو عبد العزيز منير