تستحوذ "أزمة الدراما المصرية" على مساحة كبيرة من اهتمام النقاد والمفكرين لما تمثله من أهمية، وتزداد المشكلة تعقيدًا مع الغزو التركي للدراما واحتلاله مكانة كبيرة على الشاشات العربية.. وقد أقيمت ندوة تحت عنوان "الدراما التاريخية والثورة"، شارك فيها الناقد د. مدحت الجيار، ود. خلف عبد العظيم الميري، وأدارها محيي عبد الحي الذي أوضح أن قضية الدراما التاريخية والثورة أمر غاية في الحيوية ولم يتعرض له الكثيرون. وأوضح د. خلف الميري، أستاذ التاريخ بجامعة عين شمس، عضو اتحاد المؤرخين العرب أن الدراما المصرية جزء من مصر، ومصر كلها في أزمة، والقوة الحقيقية الباقية لمصر الآن هي رصيدها الثقافي، والدراما تمثل أحد ما يميز مصر ثقافيًّا، وعبر خلف عن قلقه بشأن زحف الدراما غير المصرية إلى شاشتنا التليفزيونية، وهي ما تسمى بالقوى الناعمة. وعن تعريف الدراما قال خلف: إنها تسلسل العمل الفني الذي لديه القدرة على نقل ما يحدث في دائرة الإبداع إلى المشاهد، أي صياغة عمل إبداعي مكتوب أو مسموع أو مرئي.. والدراما هي مرآة الواقع وكما قال يوسف وهبي: "وما الدنيا إلا مسرح كبير"، وهذا يعني أن الدراما لديها القدرة على طرح تصورات لنقل المجتمع ككل لرحاب أوسع ومستقبل أكثر إشراقًا. وتساءل : هل استطاعت الدراما المصرية بشكل عام مواكبة الأحداث؟ وأجاب: بكل صدق قليل من الأعمال الدرامية المصرية هي التي نجحت في رصد الواقع المصري في إطار إبداعي.. رغم أن المنجزات المصرية في الثورة - مثلًا - تستحق أعمالًا درامية تعبر عنها، في حين نجد الموجود حاليًا أعمالًا متنافرة وفردية. وعلى مستوى الأعمال التاريخية قال: كنا نمتلك الدراما الملحمية المعبرة عن التاريخ المصري القريب والبعيد، وإن كانت قليلة العدد وذكر منها مسلسلات: "ليالي الحلمية, ورأفت الهجان، وكذلك الأفلام ومنها: فيلم "المومياء" الذي رصد وبعمق مسألة التاريخ القديم، وفي التاريخ الإسلامي لدينا فيلما "الناصر صلاح الدين، والشيماء". ودلل خلف على ذلك التقصير بقوله: حتى حرب أكتوبر المجيدة لم نجد لها أعمالًا ملحمية، كلها أعمال لا ترتقي إلى عمل ملحمي على غرار ما يحدث في الدول المتقدمة.. وأضاف: في عصر عبد الناصر كانت مصر مالكة للقوى الناعمة التي اخترقت كل الأرجاء العربية وأصبح لها دور مهم في العالم الثالث. دور المؤرخ وضرب د. خلف مثالًا آخر: لقد عجزت الدراما المصرية على مجاراة إنجازات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر باستثناء فيلم ناصر 56 لمحفوظ عبد الرحمن الذي تناول يومين في حياة مصر أيام عبد الناصر تناولًا راقيًا، وبخلاف ذلك افتقدنا العمل الملحمي الذي يصف مصر في الفترة الناصرية وأيضًا ناصر هذا العملاق الذي لن يكرره الزمان. إن دور المؤرخ في العمل الدرامي لا يقتصر على مراجعة النص فقط بل يجب أن يكون مستشارًا للعمل ككل لكي يخرج العمل خاليًا من الأخطاء البسيطة التي يمكن أن تفقد العمل مصداقيته، واستشهد بالمسلسل التركي "حريم السلطان" الذي يحمل معالجة درامية عالية، ولكن بعين المؤرخ بالمسلسل سقطة لا تغتفر في إحدى الحلقات كان الاحتفال بختان الأمير، وكان يوجد مشهد لمظاهر الاحتفال التي ظهرت بها الألعاب النارية التي لم يكن يعرفها العالم إلا مع أواخر القرن العشرين، فكيف نجد هذا المشهد في مسلسل يدور عن الدولة العثمانية؟. واستطرد: في تاريخنا الدرامي سقطة كتلك في فيلم "الناصر صلاح الدين" الذي كان مرشحًا للأوسكار، ولكن في أحد المشاهد ظهر أحمد مظهر وهو يرتدي ساعة، ففقد العمل جزءًا من مصداقيته. وعن مسلسل "الصفعة" التي قام بمراجعته تاريخيًّا قال خلف: إن المسلسل قصة حقيقية من ملفات المخابرات المصرية ، وكان في الحقبة الزمنية التي يستعرضها المسلسل حرب مخابراتيه على أعلى مستوى، ومن أصعب الأشياء عند تنفيذ مسلسل كهذا مراعاة كيف كانت الأزياء والديكور، وأيضًا الألفاظ فلكل فترة ألفاظها ومفرداتها. وأكد خلف أن مصر لديها الطاقة الخلاقة في إطار المبدعين والنقاد والمخرجين وما ينقصها في تصوره وجود دور للدولة في دعم الدراما المصرية، مشيرًا إلى أن هذا الدور كان موجودًا في الستينيات فظهرت الأعمال العظيمة التي ما زلنا نفتخر بها حتى الآن، والتي كان لها دور في وجود مصر القوي في محيط أمتها العربية. وطالب خلف الميري الدولة بالتنسيق أو عمل خطة إستراتيجية مع القطاع الخاص ودعمه لإنتاج أعمال درامية محترمة . ثورة يناير وعن تأريخ ثورة يناير قال خلف: إن هذه الثورة التي قام بها الشباب الطاهر المخلصون المؤمنون بوطنهم لا يمكن تأريخها؛ لأننا نعيش أحداثها، وفي تصوره أن الثورة لم تحقق أهدافًا تؤرخ إلا تأسيس الجمهورية المدنية. ولكن يستطيع المؤرخ أن يرصد الواقع ويناقش الأسباب التي أدت لاندلاع الثورة وأهم دوافعها ويرصدها من خلال عمل درامي في جزء أول وجزء آخر عن كيفية اندلاع هذه الثورة، ويستطيع أن يقدم من خلال جزء ثالث الوثائق السرية والكواليس لهذه الثورة المجيدة. المرحلة التاريخية وتحدث د. مدحت الجيار قائلًا: موضوع الدراما التاريخية متشعب جدًّا، ويحتاج وقتًا طويلًا لمناقشته ولكن في البداية يجب أن نعرف ماذا تعني كلمة تاريخ، فالتاريخ هو حركة الزمان وحركة الإنسان داخل هذا الزمان، وإذا تحركا معًا أصبح المجتمع قويًا وازدهر.. وطرح د. مدحت سؤالًا: لماذا تلجأ الفنون والآداب للذهاب إلى مرحلة تاريخية لتقديمها؟.. وأجاب: مع مرور لحظات ضعف بأي أمة يستتبع هذا الضعف باستعادة فترة تاريخية كانت الأمة فيها مزدهرة لبث روح التفاؤل والإقدام لدى هذه الأمة واستخلاص العبر، فالتاريخ - إذن - يساعد في حل مشكلات الواقع الراهن. وحول أهمية استرجاعنا لتاريخنا العربي والإسلامي المزدهر قال : جاء هذا نتيجة وقوع العالم العربي الإسلامي تحت الاستعمار الذي حاول أن يقطع الصلة ما بين الشعوب المستعمرة وتاريخها القديم حتى تيأس الأمة من الخروج من هذا الاستعمار.. والمستعمرون في لحظات التخلف والضعف الأولى لديهم وعندما كان العرب يمتلكون حضارة عظيمة أخذوا أفكارًا من تاريخنا استخدموها في بناء حضارتهم التي علت فيما بعد، فما وصلوا إليه من الأصل يؤول إلينا، وهم يعرفون ذلك جيدًا فحاولوا أن يحدثوا هذه الفجوة بيننا وبين تاريخنا.وبالتالي ينظر المؤرخ إلى لحظات القوة في التاريخ ليؤرخها وأيضًا يحلل لحظات الضعف لمعرفة أسبابها. وتابع: وكانت البداية الحقيقية الواضحة في مقاومة الاستعمار في مصر ما قدمه الروائي جورجي زيدان صاحب دار ومجلة الهلال حين رأى أن تقديم التاريخ القديم في لحظات ازدهاره هو سلاح ضد الاستعمار في مصر وبلاد الشام وكافة أرجاء الوطن العربي.. وكان لديه طريقة خاصة جدًّا في مزج التاريخ بالأدب، فيأخذ البطل الذي أتى به من حقبة تاريخية معينة بأحداث تاريخية فقط في الفصل الأول من الرواية ثم يأتي الفصل الثاني الذي يقدم علاقة حب للبطل ثم يستخدم مزج التاريخ والأدب ليختم الرواية بقصة الحب التي بدأها مع الفصل الثاني، وهذا الأمر عند جورجي زيدان كان منهجًا لرواياته. السلطة والنص وأضاف د. مدحت الجيار: مع بداية القرن العشرين لم تصبح الرواية التاريخية مجرد موضة بل كانت موقفًا قوميًّا، ولهذا حين بدأ نجيب محفوظ حياته الأدبية في الثلاثينيات بدأ بثلاثية عن تاريخ مصر الفرعوني، وتوالت فيما بعد أعماله الاجتماعية والسياسية التي نزل بها إلى المجتمع، ولم يلجأ إلى التاريخ سوى بتقديمه لثلاثيته الشهيرة "قصر الشوق - السكرية - بين القصرين". إن تأريخ الفترة ما بين ثورة 1919 وثورة يوليو 1952 يثبت أن الفكر المصري رغم الاستعمار نجح في عمل ثورة ودستور وتاريخ يفخر به المصريون، ولولا الحرب العالمية الثانية لتغير وجه التاريخ والمسألة ليست أن يأتي التاريخ حشوًا في النص الدرامي ولكن يأتي بميزان الذهب، فالذي يتحكم في اختيار المرحلة التاريخية هي المرحلة التاريخية نفسها وما يحتشد حولها.والعمل التاريخي يظهر العلاقة بين السلطة القائمة وروح النص، والمؤرخ عليه أن يرصد تاريخ حركة الزمان مع إنسان.. وعن النماذج التاريخية في الدراما المصرية قال الجيار: إن المسلسلات التاريخية في الدراما إما أنها مسلسلات الجاسوسية التي تلاقي نجاحًا كبيرًا مع المتلقي وتعمل على إيقاظ الوعي القومي أو تقديم شخصية تاريخية مثل أدهم الشرقاوي، وهو بطل من أبطال التاريخ الحديث الذي مجد هذا البطل من خلال العمل الدرامي، في حين أن مجلة "اللطائف" المصورة في عددها المهم عن مقتل أدهم الشرقاوي كان المانشيت الرئيس لها مع صورة أدهم "سقوط الشقي أدهم الشرقاوي"، ومن هذا نستنتج أن المجلة كانت تحت ضغوط وسيطرة كاملة من القلم السياسي آنذاك. كما أن المنظور الشعبي للتاريخ يختلف عن المنظور العلمي له .. التاريخ متعة لمن يحبه ولكنه عذاب كبير للمؤرخ لما يتطلبه من سعي وراء الحقائق لكي لا يتسبب في إفساد التاريخ. إيجابيات وسلبيات وعن سؤال أحد الحضور حول كيفية تناول الروائي للتاريخ في الكتابة الدرامية أوضح د.خلف الميري أن المؤرخ في الحقيقة هو روائي مربوط بالأحداث والوقائع، وإذا أخذ التاريخ على طريقة السرد لاستطاع أي شخص أن يؤرخ الأحداث ولكن التاريخ له ظاهره وباطنه، وقيمة النظر للمسألة أكبر من مجرد الظواهر.. فالمؤرخ يحاول أن يكون قاضيًا ليضع يديه على الإيجابيات والسلبيات وتناول الباطن والظاهر وهو ما يسمى بالتفكيكية والتركيبية. وأضاف: المؤرخ المحترم وفق منهج فلسفة التاريخ يحاول أن يرى التاريخ بكافة الجوانب ويسافر إلى الحدث في ظروفه كاملة لإجراء العملية التفكيكية حتى يؤدي العمل الدرامي وما يهدف إليه، وإذا أخذ العمل التاريخي بمعزل عن الحقائق فيصبح عملًا موجهًا. وأوضح خلف أن الجملة الشهيرة عن التاريخ بأنه حفظ وصم خدعة كبيرة، فهو علم وفهم له مقدماته في إطار معملي يحول الماضي الجامد إلى حيوي متحرك على مسرح الأحداث.. واليوم هو ماضٍ غدًا والتاريخ هو الماضي الحاضر وحاضر المستقبل. الحاكم والتاريخ وعن علاقة النظم الحاكمة بالتاريخ قال د. مدحت الجيار: إن التاريخ يؤرخ من قبل النظام الحاكم، ويجب أن يؤرخ ما تمر به مصر حاليًا ولو تأريخ مبدئي حتى لا يغيره أي نظام حاكم. وعن سؤال أحد الحضور حول مسلسل الجماعة قال الجيار: إن مسلسل الجماعة لوحيد حامد كان في ظل تنامي القوى الإسلامية على الصعيد السياسي، والمسلسل محاولة لإعادة تأريخ الجماعة والنظر إليها نظرة مختلفة عن السائدة في المجتمع المصري.. واختتم خلف كلامه: رغم تحفظاتي الكثيرة على الدستور الجديد لكن أكثر ما يعجبني احتواؤه على مادة تنص على الاهتمام بالتاريخ المصري وتدريسه على المستوى القومي؛ لأن في فترة المخلوع أهين التاريخ كما كانت أشياء كثيرة تهان فأصبحت دراسته اختيارية وكأنه مادة إضافية لا أهمية لها، وهذا كان جزءًا من تعمية الشعب فحين يتم قطع الصلة ما بين التاريخ والنشء الجديد نضع أنفسنا في مهب الريح، وقد أدارت ثورة يناير عجلة التاريخ التي لا يمكن أن تتوقف وتعود للوراء ومع وجود وسائل الإعلام المتعددة حاليًا تمنع أي نظام من فرض وجهة نظرة الخاصة على التاريخ؛ لأن الحقيقة لا يمكن أن تحجب.