في ظل عالم جديد، بالغ التعقد والتشابك، تتسع وسائط الاتصال داخله إلى حد لا مثيل له، أصبحت الثقافة البصرية تمثل جانبا مهما من جوانب تشكيل العقل العام للأمة المصرية، وبما يعني أن الدراما التليفزيونية على سبيل المثال وبوصفها تكريسا لعصربالصورة«، أصبحت تحوي سطوة حقيقية داخل مجتمعاتنا. من ثم يصبح الاهتمام بما تقدمه الدراما التليفزيونية اهتماما لازما بفضاء مؤثر في تشكيل وجدان المصريين في لحظة فارقة ومفصلية في عمر أمتنا، وبعيدا عن الإصرار المشين من قبل كثير من منتجي الدراما وصناعها على تسليع الفن، وصبغه بطابع استهلاكي محض، يسهم في المزيد من التخدير للجماهير، وإلهائها عن واقعها المحتدم، وبما يعنيه ذلك من تكريس للخفة، والجاهزية، واللتين تسمان أي فن رديء، وبدلا من أن يبحث المبدع عن مناطق مختلفة يتحرك داخلها فنيا، ويخلق مساحات تماس حقيقية بينه وبين المتلقي، إذا هو يمارس قدرا لا بأس به من النظر الأحادي الساذج للعالم، والأشياء، ويقدم دراما تحوي رؤية حدية للعالم، يتمايز البشر فيها بين سياقين: الشر أو الخير، ويصبحون إما شياطين او ملائكة!، والنهايات الساذجة حاضرة في النهاية، بوصفها نهايات سعيدة تجعل مشاهدينا المأزومين في الواقع، منتصرين على شاشات التلفاز فحسب!!. إن هذا ومثله كثير يمكنك أن تلمحه في مسلسلات تليفزيونية عديدة، لكنك - عزيزي القاريء- ستصاب بالدهشة وأنت ترى الدراما - أو ما يشبهها في الحقيقة- ، تمرغ أنف التاريخ، وتلوي عنقه، على الرغم من أنها ارتضت- منذ البداية- أن تكون مادتها الأساسية مستقاة من التاريخ، ومأخوذة منه، خاصة حين تحدد فترة زمنية بعينها، مثلما نرى في المسلسل التليفزيوني «سراي عابدين»، والذي يرصد فترة الخديوي إسماعيل، بما حوته من تفاصيل مختلفة، والمدهش في الأمر أن الفن الذي هو طرح لكل ما هو جوهري ودال، حينما يلتقط فترة تاريخية تحوي كل هذا الغنى الفني، يأتي هذا المسلسل مشغولا بحوارات ركيكة بين شخوصه، تبدو في كثير منها غير متوائمة مع السياقين التاريخي والاجتماعي، ويتناول مسائل غاية في الخفة والعادية، فتتحول الدراما إلى مجموعة من الثرثرات الفارغة التي تزيف التاريخ، أكثر من كونها تصنع موقفا من العالم، فيبدو الخديوي إسماعيل، أحد شركاء النهضة المصرية بامتياز، محض حاكم عابث لا يملك رؤية ولا تصورا يليق بالأمة المصرية، وبما يؤدي إلى إمحال الشخصية الفنية وتحويلها إلى مسخ شائه لا أكثر ولا أقل، فالخديوي إسماعيل الذي امتلك مشروعا حقيقيا للتحديث، والذي شهد عهده أول وجود لمجلس شورى النواب عام 1866، يتحول قصر حكمه إلى مكان خصب لمكائد الجميلات، وشرور الغادرات فحسب، عبر تسطيح مبتذل فنيا ودلاليا، فضلا عن نمطية تعيسة في طرح صورة المرأة داخل «سراي عابدين»، والمعبرة عن وعي قديم للغاية، وعي محافظ، كلاسيكي بامتياز، ومعاد لكل قيم التنوير والحداثة والتقدم. حين يتعاطى المبدع مع التاريخ، فإنه يضع قدما في الماضي، وأخرى في الراهن، وتتحرك الدراما حينئذ في مساحتين ضافيتين، الأولى مساحة تاريخية يغلب عليها الطابع التسجيلي الوثائقي، والذي يمكن أن يمثل إطارا زمانيا/ مكانيا للعمل الفني، وفضاءً دلاليا له، أما الطابع الثاني فهو طابع تخييلي محض، وعبر التضافر بين التاريخي والتخييلي والتواشج بينهما تتشكل مساحة ثالثة رهيفة من الفن الحقيقي المسكون بالمتعة، والجمالية، والخلق، والمشغول بتبصير الجماهير بواقعهم، وتحرير وعيهم، لا تزييفه، فحين تزيف الدراما التاريخ، فإنها في الحقيقة تزيف معه وعي أمة، وتخلق سياقا من العبث والفراغ، وتكرس لمزيد من استلاب الوعي في مجتمع ضرب بينه وبين قيم الحداثة خصومة، وخلق واقعه المسكون بتحالف الفساد والرجعية سياقا من الجهالة والخرافات. لم تكن ثمة محاولة حقيقية لخلق فن، بل كانت مزيدا من الثرثرات والرطان، استنادا إلى فهم قشري لمعنى الدراما وماهيتها. وإذا كان الفن الحقيقي - بحسب أرنيست فيشر- هو الذي يفتح الأبواب المغلقة بدلا من أن يدخل الأبواب المفتوحة، فإن أي فن حقيقي يجب ان يتسم بالقدرة على الإدهاش، ومجاوزة السائد والمألوف، وعلى صبغ العادي بطابع جدبد ومختلف، ساعيا صوب عالم أكثر حرية وجمالا وعدلا وإنسانية. وإذا كانت المصادر والمرويات التاريخية قد تبين صحيحها من متوهمها فيما يتعلق باستجلاء فترة الخديوي إسماعيل، فإن عملا تليفزيونيا آخر مثل «صديق العمر»، قد عانى من إشكاليات فنية وموضوعية لا حصر لها، بدءا من الاعتماد على مصادر منحازة تحوي تصورا أحاديا عن تلك الفترة، مثل الاعتماد على مذكرات الفنانة برلنتي عبدالحميد، وصولا إلى مسخ صورة الزعيم الخالد جمال عبدالناصر، وتقديم تصور باهت بتكنيكات قديمة عن فترة تحتمل مزيدا من الكشف، وتعرية المسكوت عنه، وليس التعامل بيقين عارم مع تلك الفترة. وبعد .. على الدراما الحقيقية التي يعلم صناعها معنى الدراما بحق، أن تسهم في انفتاح مدارات التلقي والتأويل، حين تتعاطى مع مادته التاريخية، شريطة ألا تفسد معنى التاريخ - المادة الخام للحكاية -، وأن تسهم في تنوير وعي ناسها، ووصلهم بلحظات فارقة في تاريخهم سلبا أو إيجابا، وعبر هذا التماس بين الماضوي والمعيش، يمكن مراجعة ما كان، من أجل فهم ما هو كائن، واستشراف ما سيكون، فالفهم شرط البقاء في عالم متحول، المعرفة فيه قوة- بتعبير ميشيل فوكو-، وهي قوة تسلم إلى الحضور، وغيابها يعني الفناء. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله