قامت الحكومة خلال الأسبوع الماضى برفع أسعار البنزين والسولار والغاز الطبيعي، وأعلنت رفع أسعار استهلاك الكهرباء بدءا من فاتورة الشهر المقبل، وذلك ضمن خطة لخفض دعم الطاقة تدريجيا على مدى ثلاث سنوات، وقصر ذلك الدعم على الفئات محدودة الدخل، كأحد السبل الرئيسية لمواجهة عجز الموازنة و الزيادة المستمرة فى الدين العام. القرار مفهوم على الصعيد الاقتصادي، وكان محلا للتداول والبحث المستمر على مدى السنوات القليلة الماضية من جانب الاقتصاديين المصريين على اختلاف توجهاتهم السياسية وانتماءاتهم الفكرية. فالكل يعرف أن دعم الطاقة يستحوذ فى المتوسط على نحو 17% من إجمالى الإنفاق فى الموازنة العامة، وأن هذا الدعم بشكله الحالى يفيد منه بالدرجة الأولى الصناعات الاحتكارية التى تبيع لنا منتجاتها بأعلى من الأسعار العالمية، و الأغنياء الذين يملكون السيارات وأجهزة التكييف والأجهزة الكهربائية، فضلا عن السفارات والهيئات الأجنبية ومواطنيها الموجودين على أرض مصر. ولكن على الجانب الآخر يتمثل المستخدم الرئيسى للغاز الطبيعى والمازوت والسولار والبنزين فى الصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة (الأسمنت، الأسمدة، حديد التسليح، الألومنيوم، السيراميك، الصناعات الغذائية..) يليها قطاع الكهرباء، وقطاع النقل والمواصلات. وبالتالى فإن رفع أسعار المنتجات البترولية يعنى رفع تكلفة انتاج السلع المصنوعة ورفع فاتورة الكهرباء ورفع تكلفة نقل البضائع وتكلفة التاكسى والميكروباص ووسائل النقل العام. والكل يعرف أن ارتفاع تلك الأسعار سيترجم على الفور فى ارتفاع فاتورة الطبيب والمحامى والمحاسب والحرفي..الخ لتكون النتيجة النهائية ارتفاع أسعار جميع السلع والخدمات. البيانات الرسمية توضح أن بنود الطعام والشراب، والسكن ومستلزماته (بما فيها تكلفة المياه والكهرباء والغاز)، والانتقالات والنقل، تشكل نحو 61% فى المتوسط من ميزانية الأسرة المصرية. كما أن هذه البنود الثلاثة تشكل أكثر من 80% من ميزانية الأسر التى تقع تحت خط الفقر. فى كلمة واحدة ارتفاعات الأسعار تنصب بشكل مباشر على تكلفة الاحتياجات الأساسية للأسرة المصرية، وخاصة الأسر الفقيرة. الموجة الأولى لزيادات الأسعار جاءت فورية ممثلة فى ارتفاع تعريفة الركوب لوسائل المواصلات الرئيسية للفقراء، الميكروباص والتوكتوك، بنسب تتراوح بين 50% و 100%، وتلتها موجة من ارتفاعات أسعار الخضر والفاكهة، وإرهاصات لزيادة المصروفات والتبرعات الإجبارية بالمدارس. الحكومة التى أصرت فى البداية على أنه لن يحدث أى زيادات فى الأسعار، اضطرت للإعلان عن تعريفة جديدة لأجر الميكروباص وتعديل عدادات التاكسى بما يعكس الزيادة الحقيقية فى تكلفة السولار والبنزين، وأعلنت أنها ستراقب التطبيق الحازم لتلك التعريفة. وأعلن وزير التموين أنه تم زيادة السلع المدعمة المدرجة فى بطاقات التموين إلى 20 سلعة، كما تم طرح سلع غذائية بأسعار مخفضة فى المجمعات الاستهلاكية. ورغم أهمية تلك الإجراءات فإنها لا تكفى للسيطرة على الأسعار، ولا تحول دون تخفيض مستويات المعيشة للشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة، والعصف بالحاجات الأساسية لنحو 27% من السكان يقعون تحت خط الفقر. الحكومة تقول أنها قد رفعت الحد الأدنى لأجور العاملين فى الجهاز الحكومي، ورفعت المعاشات، وسترفع معاش الضمان للفقراء، وأنها بذلك قد وفرت شبكة أمان تساعد المواطن المصرى على تحمل ارتفاعات الأسعار. وبغض النظر عن مدى قدرة هذه الشبكة على حماية الأسرة المصرية من عصف ارتفاعات الأسعار، فإن المؤكد أنها لاتغطى أصلا الغالبية العظمى من السكان فى مصر. فالحد الأدنى للأجور لم يطبق على العاملين فى القطاع الخاص، ناهيك عن العمال الزراعيين، الذين يشكلون وحدهم أكثر من 27% من إجمالى العاملين. الفلاح المصرى عليه الآن أن يواجه ارتفاع أسعار السولار الذى يستخدمه كوقود لآلات الرى والزراعة والحصاد، وارتفاع أسعار السماد الذى يعد الغاز الطبيعى أحد مكوناته الأساسية. لم توضح الحكومة حتى الآن ما إذا كانت لديها خطة للسيطرة على تكاليف الانتاج الزراعى التى تهدد بشكل مباشر حياة نحو 4ر6 مليون مواطن مصرى يعملون بالزراعة ويشكلون مع أسرهم ما لا يقل عن 25 مليون نسمة. الفلاح المصرى خارج أى شبكة أمان. قانون العمل ينص صراحة على استبعاد العمال الزراعيين من تحت مظلته، وهم خارج الحد الأدنى للأجور وخارج أى حماية تأمينية. الحكومة تعلن أنها قد حصلت على وعود من اتحاد الغرف التجارية ومن رجال الأعمال بأنهم لن يقوموا برفع أسعار منتجاتهم. إلا أن الاقتصاد لا يدار بالوعود، ولهيب الأسعار الذى يهدد مستوى معيشة ملايين المصريين خطر حقيقى لا نملك ترف مواجهته باستدعاء الوازع الأخلاقى أو الوطنى فقط. لابد من وضع حد أقصى لهامش الربح فى مجالات النشاط المختلفة حتى لا يتم نقل العبء إلى المستهلك. لا بد من إيجاد آلية لتوفير مستلزمات الانتاج الزراعى للفلاح بأسعار منخفضة، لابد من تفعيل أهم أدوات الحكومة للسيطرة على الأسعار وهو تدخلها المباشر كمنافس للاحتكارات الصناعية والتجارية وتوفير السلع والخدمات بأسعار منخفضة. الحكومة نفسها تعرف أن هذا هو السبيل الأكثر فعالية. أعلنت عن توفير سيارات نقل جماعى من جانب الجيش لمواجهة ارتفاع أجور الميكروباص وعن خطة لمضاعفة عدد أوتوبيسات النقل العام. المواطن يعرف أن شركات القطاع العام للمنتجات الغذائية توفر له سلعا بأسعار تقل 25% عن منتجات القطاع الخاص وتماثلها فى الجودة. لابد إذن من إحياء وتشغيل مصانع القطاع العام المنتجة للسلع الغذائية والاستهلاكية، حتى تتوفر المنافسة وينكسر الاحتكار فتنخفض الأسعار. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى