لا يظنَّنَ ظانُّ: أن الوعي الإسلامي العام قد اختلطت في رؤيته الثاقبة: الفروقُ الجوهريةُ الجَليّة بين مفهوم «السياسة الشرعية» القويمة، تلك التي تقيم معايير «العدل»، وتُشيِّد موازين «الحق» في أرجاء الكون بأسره، وبين «لُعْبَة السياسة» حيث يُستخدَم «الدين» في جملته وتفاصيله: سعيًا إلي الانقضاض علي مفاصل السلطة وتَلَمُّظًا إلي اعتلاء سُدَّة الحكم، مهما انتُهِكَت في سبيل ذلك حرمات، وسالت دماء!! ولا يظنَّنَ ظانُّ أيضًا: أن «لُعْبَة السياسة» بهذا المفهوم الإجرائي المحدد: حديثة العهد في دنيا الناس، فلم تزل «لُعْبَة السياسة» من قَبْل ميكيافيللي ومن بَعْده ماثلةً شاخصةً ومختزنةً في الذاكرة البشرية الجمعية: مقترنة بأنماط سلوكية شتي، تنأي بها قليلاً أو كثيرًا عن «روح» الإسلام، وتتنزه عنها أخلاقياته الرفيعة، وقِيَمُه المثلي. فحين انقضت حقبة الخلافة الراشدة، وبدأت مسيرة الحقبة الأموية في أعقابها: أدرك خلفاؤها: أنهم بحاجة ماسة إلي الاستناد إلي «ظهير» فكري، ومستند ديني، يَبرِّر في أعين الناس: «قفزتهم» إلي أَرِيكة الحكم، واعتلاءهم سُدَّته، كما يبرر في الآن نفسه بعض مظاهر الغِلظة والعنف التي صاحبت تلك المسيرة، كما يبرر أيضًا: بعض أفاعيل وُلاتِها وعُمَّالها في الأمصار، تلك الأفاعيل التي أثارت صنوفًا شتّي من السخط والنفور بين الناس. لا مناص إذن أمام تلك العوامل التي اصطخب بها المجتمع الإسلامي آنئذ من «وسائل فكرية تبريرية»، تدرأ بها الخلافة الأموية عن نفسها: تهمة الابتعاد-قليلاً أو كثيرًا- عن «صورة» الإسلام، كما تُسْكِتُ بها وَخْزَضمائر أولئك الأتقياء الأنقياء الذين يتحسرون ندمًا علي ما شاب نمط الحكم الأموي من شوائب «المُلْك» العَضُوض وسلطانه، مقارَنَةً بينه وبين ما كانت الخلافة الراشدة تتسم به من تعفف عن الحلال فضلاً عن الحرام، وعكوفٍ علي الزهادة، وعزوف عن الرفاهة!! دروس أُمَوِّية ثلاثة اصطبغت بها «لُعْبَة السياسة» في تلك الحقبة الأموية، ينبغي وضعها أمام البصائر والأبصار في هذه الآونة الحاسمة من مسيرتنا المعاصرة، حتي نكون علي بصيرة من الأمر، وحتي نأخذ جانب الحذَر فيما نأتي ونَذَر! أولها: الجهد الجهيد الذي تمخضت عنه»لُعْبَة السياسة» الأموية في إشاعة عقيدة «الجبر» ذلك المصطلح العَقَدي الذي يقوم علي أن البشر «مجبورون» علي أفعالهم الخَيِّرة والشرِّيرة جميعًا، وأنهم لا اختيار لهم ولا إرادة فيما يأتون ويَذَرُون، استنادًا إلي أن القضاء والقدر السابِقَيْن الأَزليَّيْن: واقعان لا محيص عن ذلك ولا مهرب، ومن ثمّ فإن اعتلاء الأمويين سُدَّة الحكم - يصبح طبقًا -»لِلُعْبَة السياسة الأموية»- قَدَرًا مَقْدُورًا، ومصيرًا محتومًا لا سبيل إلي الفكاك منه، ولا جدوي من مقاومته، أو التأبِّي عليه، أو الاستعصاء علي سلطته النافذة القاهرة، مما يبرر للأمويين: إسْكات كل مقاومة، وإِجْهاض كل معارضة، لا يلوون في ذلك علي شئ، وهذا عبد الملك بن مروان كما يروي صاحب «الإمامة والسياسة»- يبعث مناديًا ينادي في الناس عقب مقتل أحد خصوم الأمويين: إن أمير المؤمنين قد قتل صاحَبَكم بما كان في القضاء السابق والأمر النافذ!! إن قليلاً من التأمل في الآيات القرآنية الكريمة - التي تقرر أن مصير الإنسان مرهون بعمله وإِلاَّ بَطُلت مسئوليته عن مصيره: يبطل دعوي الجبر بلا مراء، كما أن قليلا من التأمل في تيار الأفعال الإنسانية صغيرها وكبيرها يُظْهِر بجلاء أن شيئًا من تلك الأفعال لا ينفكالبتة عن إرادة الإنسان الحرة، وعزيمته المستقلة، وقصده المنفرد، وإلا كان الإنسان أشبه بالحجر الذي يُلقَي من شاهق!! وأكبر الظن أن هذا ما عناه الحسن البصري فيما رواه ابن قتيبة حين ذهب إليه الناس يشكون مظالم الولاة وبغيهم ونَهْبَهم قائلين: إنها «تجري علي قدر الله»، فأجابهم قائلاً: «كذب أعداء الله». ثانيها: الجهد الجهيد الذي نسجته»لُعْبَة السياسة» الأموية في إشاعة عقيدة «الإرجاء» الذي يعني لفظيًا: «الإمهال والتأخير»، كما يعني في مضمونه الدلالي «أنه لا يضر مع الإيمان معصية»،كما يقول الشهرستاني،لكن «لُعْبَة السياسة» لدي الأمويين قد وَظَّفَت هذا المضمون الدلالي وظيفتين: دنيوية، وأخروية، أما الدنيوية، فللولاة والملوك أن يرتكبوا وفقًا لهذا المضمون الدلالي ما يرتكبون من ألوان الظلم والجور والعسف دون أن يُنْقِص ذلك من «إيمانهم» مثقالَ ذرة، أما الأخروية فإن حسابهم وعقابهم علي أفاعيلهم تلك: «مُرْجَأُ» إلي يوم الحساب، وبهذا المضمون الدلاليّ المتعسف يُفْلِتُ الظَّلَمَة من الحساب علي ما اقترفته أيديهم دون مساس!! ثالثها: الجهد الجهيد الذي ابتدعته «لُعْبَة السياسة» الأموية في إشاعة التمسك بظاهر الحديث الصحيح الذي رواه البخاري من دعائه صلي الله عليه وسلم «اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطٍ لما منعت ولا ينفع ذا الجَدّأي صاحب المال أوالحظّ- منك الجَدّ». وللمرء أن يتأمل الأثر الذي يمكن أن تحدثه إشاعة عقيدتي: «الجبر» و»الإرجاء»من التمكين للحكم الأموي، كما يمكن للمرء أن يضيف إلي ذلك ما يمكن أن يُحْدِثه الفهم «الأحادي» المنفرد لهذا الحديث من الاستسلام والرضوخ والخضوع، وذلك دون الأخذ في الاعتبار- ضرورة الجمع بينه وبين نصوص أخري صحيحة قرآنية وحديثية - تحث علي مقاومة الظلم، ومجابهة البغي، وردّ العدوان. ثم أقول: أليس فيما نشاهده الآن علي الساحة من استدعاء «الدين» في «لُعْبَة السياسة»:استعادةٌ لما احتفظت لنا به ذاكرة التاريخ الأموي للعبة السياسة سواء في خطوطها العريضة،أونهجها التبريري المرواغ؟! ثم أقول أيضًا: ألم يكن الشيخ محمد عبده علي حق في مقولته التي استعاذ فيها بالله تعالي من «لُعْبَة السياسة» ومشتقاتها ومن دروبها الملتوية، وخطوطها المتعرجة، وخيوطها الملتبسة، وهي تلك المقولة التي لا نَفْتَأُ نكرِّرها، حين نشهد ما نََجَم عن «لُعْبَة السياسة» من الافتراق والشقاق، ومن الدماء والأشلاء؟!! لمزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى