بالغ السوء والأسف أن نري تلك المآلات التعسة التي آل إليها الوطن، بل الإسلام نفسه، في هذه الآونة، من جرّاء ما يفعله بعض أبنائه وأتباعه، الذين حوّلوه من إسلام إلهي.. سمح.. رحيم.. جوهره 'لا إله إلا الله'.. وهدفه هداية العالمين.. ورحمة العالمين.. الإسلام الذي ارتقي بالبشرية إلي تمام الدين.. وكمال مكارم الأخلاق.. فتمت به النعمة.. وعمّ السلام أرجاء المعمورة.. لقد حوّلوه إلي إسلام سياسي إلهه السلطة.. وآلياته الكذب.. والحيلة.. والمكر.. والتزود الشره من كل أسباب القوة المتوحشة.. لقهر الخلق.. وإذلال الرقاب.. الإسلام الإلهي هو الرحمة التي وسعت كل شيء.. وإسلامهم السياسي سوط عذاب.. وأداة فتك وإرهاب. لا غرو إذن أن نري الناس وهم يخرجون من دين الله أفواجًا.. وليس هذا من قبيل المبالغة والتزيّد.. فلأول مرة نسمع عن تزايد أعداد الملحدين في مصر.. ونري منهم تلك المجاهرة الفجة بالإلحاد.. بل والجرأة في السعي والمطالبة بتمثيل يحفظ لهم حقوقهم في دستور البلاد، الذي يجري الإعداد له هذه الأيام.. وهذا من جرائر ممارسة السياسة باسم الإسلام!! تزايدت فعلاً أعداد الملحدين في مصر، خاصة بعد أن رأوا من أوهمهم أن الإسلام هو الذي يحكم.. الإسلام في صورة تطبيقية فاشية فاشلة!! عندما اعتلت جماعة الإخوان المسلمين، كبري الحركات الفاعلة في منظومة الإسلام السياسي، سدة الحكم في مصر.. وصلت إلي الحكم وهي رافعة ذلك الشعار الكليّ الغامض: 'الإسلام هو الحل'، وهو شعار متسق، ساحر الصياغة، ولكنه في الوقت نفسه شعار صوري فارغ، يحيل إلي ذاته، دون أن يحمل أي مضمون واقعي يشير إليه من برامج وحلول لمشكلات الواقع الذي أصبح يثقل كواهل الناس.. ويئنون تحت وطأته.. فلم يعدُ الشعار أن يكون تحصيلاً لحاصل لا جديد وراءه!! وطوال عام الحكم الإخواني انتظر الناس الحلول التي بشروهم بها تحت لافتة الإسلام.. ولم يجد الجميع شيئًا سوي قبض الريح.. ومن ثم لم يهدأ أوار الصراع والصدام بين الطغمة الحاكمة والجماعة التي تحركها في جانب وكل قوي المجتمع وفئاته في جانب آخر.. وليس مع الحكومات هذه المرة!! وكلما جدّ الناس في السؤال: أين ما وعدتم به؟ أين ما بشرتمونا به من حلول الإسلام؟ لم يجدوا منهم إلا التبرير والتسويف والمماطلة.. فثار عليهم الشعب واقتلعهم.. لما عاينه منهم من استئثار بالسلطة وإقصاء لكل من عداهم من التيارات السياسية الأخري.. وتبدلت الأحوال.. فرأي كثير من المتابعين للإخلوان وجهًا احترابيًا دمويًا.. يدوس كل القيم في سبيل مصلحته الذاتية الخاصة!! وهو في الوقت نفسه منتسب إلي الإسلام في كل ما يقول ويفعل. وعهد الناس بالإسلام سبيل إلي الإصلاح.. واجتماع الكلمة، والتئام الشمل.. وليس سبيلاً إلي التفريق، والشرذمة، والاستقطاب الحاد الذي لم تعرف له البلاد مثيلاً منذ وصول الإخوان إلي السلطة، ثم ازاحتهم عنها.. وهو مالا نزال نعاني آثاره المدمرة حتي هذه اللحظة. وكان مما غذّي هذا الاستقطاب، وأشعل أوار الفرقة والشقاق السياسي والمجتمعي، هو بعض العيوب الهيكلية التي يتسم بها خطاب الإخوان المسلمين.. ومنها أنه خطاب تبريريّ.. إنكاري.. مراوغ.. يسمي الأشياء بغير أسمائها الحقيقية.. يعيب الشيء، فإذا صدر منه برره.. وحاول تجميله في أعين الناس، بخفة لاعب السيرك، الذي يقفز من النقيض إلي نقيضه في لمح البصر!! فهل يختلف حاضر جماعة الإخوان المسلمين عن ماضيهم في هذا الجانب من خطابهم؟ لابد هنا من ربط الحاضر بالماضي لنري: هل طرأ علي هذا الخطاب من تغيير.. أو تطور.. أو نضوج؟ ولنضرب هنا مثلاً من تراث الإخوان المسلمين.. حيث بدايات الدعوة.. والآباء المؤسسون.. والقضية التي يدخل المثل فلي إطارها هي من أعقد القضايا في تاريخ الإخوان المسلمين.. بل في تاريخ الإسلام السياسي كله، وهي قضية الاغتيالات السياسية. والهدف من سوق المثل هو الكشف عن أنماط تفكير العقلية الإخوانية.. وأساليبها في معالجة المشكلات التي تواجهها.. والمثل في الأخير شاهد علي المنطق التبريري في خطاب الإخوان.. واستراتيجيته الأساسية هي الحجاج بالمغالطة. وبداية إذا وقع الاغتيال السياسي من غير الإخوان المسلمين سموه باسمه الطبيعي، أما إذا وقع منهم للتخلص من خصومهم، فإنهم عندئذ يطلقون عليه مصطلحًا إيجابيًا برّاقًا وهو: 'الأعمال الفدائية'.. وحرمة الدم واحدة لو كانوا ينصفون، ما دمنا في إطار من السجال السياسي السلمي، والخصوم من المسلمين معصومي الدم. المثل هو كيفية معالجة قضية مقتل المستشار أحمد بك الخازندار، القاضي الذي حكم بأحكام قاسية علي بعض أعضاء الإخوان، فقام ثلاثة منهم هم: عبد الرحمن السندي، رئيس التنظيم السري الخاص، ومحمود سعيد زينهم، وحسن عبد الحافظ.. باغتيال القاضي الخازندار واعترفوا بذلك.. يروي 'محمود الصباغ' في كتابه: 'حقيقة التنظيم الخاص ودوره في دعوة الإخوان المسلمين'، يروي النتيجة التي توصلت إليها المحكمة الإخوانية الخاصة التي عقدت للنظر في هذه القضية فيقول: 'وقد تحقق الإخوان الحاضرون لهذه المحاكمة من أن عبد الرحمن قد وقع في فهم خاطئ في ممارسة غير مسبوقة من أعمال الإخوان المسلمين، فرأوا أن يعتبر الحادث قتلاً خطأ، حيث لم يقصد عبد الرحمن ولا أحد من إخوانه، سفك نفس بغير نفس، وإنما قصدوا قتل روح التبلد الوطني في بعض أفراد الطبقة المثقفة من شعب مصر أمثال الخازندار بك. 'ولما كان هؤلاء الإخوان قد ارتكبوا هذا الخطأ في ظل انتمائهم إلي الإخوان المسلمين وبسببه.. فقد حق علي الجماعة دفع الدية التي شرعها الإسلام كعقوبة علي القتل الخطأ من ناحية، وأن تعمل الهيئة كجماعة علي إنقاذ حياة المتهمين البريئين من حبل المشنقة بكل ما أوتيت من قوة، فدماء الإخوان ليست هدرًا يمكن أن يفرط فيها الإخوان في غير أداء فريضة واجبة يفرضها الإسلام، حيث تكون الشهادة أبهي وأعظم من كل حياة. 'ولما كانت جماعة الإخوان المسلمين جزءًا من الشعب، وكانت الحكومة قد دفعت بالفعل ما يعادل الدية إلي ورثة المرحوم الخازندار بك، حيث دفعت لهم من مال الشعب عشرة آلاف جنيه، فإن من الحق أن نقرر أن الدية قد دفعتها الدولة عن الجماعة وبقي علي الإخوان إنقاذ حياة الضحيتين الأخريين محمود زينهم، وحسن عبد الحافظ. 'واستراح الجميع لهذا الحكم دون استثناء، بل إنه لقي موافقة إجماعية من كل الحضور بما في ذلك فضيلة الإمام الشهيد' إلي هنا انتهي كلام محمود الصباغ. لقد ساق محمود الصباغ، في هذا النص، أغرب متوالية تبريرية، يمكن سوقها للتنصل من المسئولية الدينية.. والجنائية.. والأخلاقية، عن قتل المستشار الخازندار.. هكذا تقتل نفس مسلمة حرّم الله قتلها إلا بالحق.. هكذا يسفك دم بشريّ هو أعظم حرمة عند الله من الكعبة المشرفة. إنها متوالية عجيبة حقًا: بما أن الأستاذ السندي لم يتلق أمرًا مباشرًا من المرشد العام حسن البنا.. بل اجتهد رأيه ظنا منه أن قتل الخازندار سيرضي المرشد الذي تمني في وجود السندي الخلاص من الخازندار، إذن فالقتل خطأ!! وما دام السندي ورفيقاه ينتمون إلي جماعة الإخوان المسلمين، فإنه يجب علي الجماعة دفع الدية.. وما دامت الحكومة قد دفعت الدية من مال الشعب، والجماعة جزء من الشعب.. وعليه فلا شيء علي الجماعة.. وهو الحل الذي أراح الضمائر 'المعذبة'. ثم فلتتأمّل معي تلك العبارة المجازية العجيبة، التي يوردها 'محمود الصباغ' لينفي من خلالها تهمة القتل عن إخوانه أو يبررها: 'حيث لم يقصد عبد الرحمن ولا أحد من إخوانه، سفك نفس بغير نفس، وإنما قصدوا قتل روح التبلد الوطني في بعض أفراد الطبقة المثقفة من شعب مصر أمثال الخازندار'. هل يصلح 'المجاز' هنا تبريرًا لقتل النفس قتلاً ماديا حقيقيًا؟ 'المجاز' لا يعد وكونه آلية بلاغية يصنع منها الخطاب الأدبيّ الجماليّ! فهل غابت عن أذهانهم أبسط قواعد الشريعة الإسلامية التي لا تبيح قتل النفس إلا بشروط ثلاثة ليس من بينها 'روح التبلد الوطني' التي سكنت جسد المستشار الخازندار؟ أم هو منطق التبرير.. وانعدام الشعور بالمسئولية.. وإعمال المعايير المميزة المزدوجة التي يهدر الإخوان المسلمون من خلالها دماء الأغيار رخيصة، بينما دماؤهم وأرواحهم غالية يجب صونها وادخارها لأداء فريضة الجهاد المقدس في سبيل الدعوة الإخوانية؟ وهل يكتسب الإرهاب صفة القداسة مهما حاولوا أن يلصقوها به؟ وإذا كان هذا هو منطق تفكير قيادات الرعيل الأول من جماعة الإخوان المسلمين، والمفترض فيهم الحكمة والرزانة والاتزان.. وإذا كانت تلك هي ثمار ضمائرهم، فلا ينبغي أن نستغرب مدي البؤس الأخلاقي الذي انحدر إليه جيل الشباب منهم، إلي درجة أن يصفع أحد هؤلاء الشباب سيدة عجوزًا مُسنّة، علي وجهها أمام الملايين، لمجرد أنها تحمل صورة تجمع بين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والفريق أول عبد الفتاح السيسي، يوم محاكمة الرئيس السابق د.محمد مرسي.. الذي سرق هو وجماعته ثورة مصر في 25 يناير.. ووجهوها لخدمة أهدافهم الخاصة في القفز علي السلطة التي لم تدم في أيديهم إلا قليلاً.. 'قل اللهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك علي كل شيء قدير' 'آل عمران: 26'.