يبدو السؤال بديهيا إذا ما ابتعدنا قليلا عن المشهد وتفاصيله الزاخرة: لماذا لم يطرح الثوار في التحرير وغيره من ميادين المعمورة مشروعا للانتقال نحو المجتمع والدولة المنشودين، والقائمين وفقا لمنطوق شعارات الثورة نفسها على الحرية والعدالة الاجتماعية؟ طوال ثماني عشرة يوما كانت الصيحة المشتركة للثوار المصريين "الشعب يريد اسقاط النظام"، وبديهي أن اسقاط نظام ما يعني بالضرورة استبداله بنظام آخر، فلم نكن إزاء "هوجة" غضب عشوائي من قبيل حريق القاهرة، وانما ثورة شعبية كبرى أذهلتنا نحن قبل أن تذهل العالم بانضباطها وبسالتها وإصرارها، وبوضوح ونصوع أهدافها. دعنا بداية نوضح ما نعنيه بمشروع للانتقال، فعادة ما يفهم عندنا بأن المطلوب هو برنامج تفصيلي للبناء الجديد في السياسة والاقتصاد والتعليم والصحة والادارة، وصولا إلى حل مشكلة المواصلات، وهي التي تعهد الرئيس السابق محمد مرسي وزملاؤه في مكتب الإرشاد عن خراقةمحيرة بحلها في غضون المائة يوم الأولى لرئاسته. ليس في الحقيقة بوسع أحد أن يقدم مشروعا من هذا النوع، وإذا قدمه فيبقى نوعا من التفلسف الأكاديمي في أحسن الأحوال والتدجيل في أسوئها. الانتقال الثوري في المدى المباشر معني بأمرين أساسيين لا ثالث لهما، وهما آليات انتقال السلطة من ناحية، والإصلاحات المباشرة الأكثر الحاحا والمتصلة بأوثق ما يكون بالأسباب المباشرة المفجرة للثورة، وبمقتضيات تحقيق أقصى توسيع ممكن لقاعدتها الشعبية، من ناحية أخرى. شعارا "الشعب يريد اسقاط النظام" و"أرحل مش هانرحل" يكثفان اصرارا شعبيا عارما على تغيير جذري وشامل يبدأ بإزاحة رأس النظام، وشعارات الثورة الأساسية (عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة انسانية) تبين بنصوع مدهش اتجاه التغيير المنشود، ولكن ثم ماذا؟ ولنصوغ السؤال بصورة أكثر تحديدا: لماذا لم يطرح الثوار تصورا محددا في شأن من يحل محل الرئيس المطاح به؟ ذلك هو السؤال البديهي فيما لو نظرنا لمسار الثورة المصرية من مسافة تبتعد بنا عن تفسير الماء بالماء. الثورات لا تكتفي ولا يمكنها أن تكتفي بإسقاط حاكم ما، ولكنها معنية بالقدر نفسه بفرض من يحكم بدلا منه، وب"من" نقصد آليات وأجهزة سلطة وليس شخصا أو أشخاصا. الصيغة المعهودة في أكثر الثورات في التاريخ البشري الحديث هي تعيين حكومة مؤقتة تخرج من قلب الثورة وتتمتع بثقة ودعم الجماهير الثائرة، مسئولة أمامهم وخاضعة لتوجيههم ومحاسبتهم. حقا، لو تصورنا مسارا مختلفا متخيلا للثورة المصرية لكان تشكيل حكومة مؤقتة من قلب التحرير وغيره من الميادين المصرية هو الاستكمال المحتم، بل والبديهي، للجملة الناقصة القائلة بإسقاط النظام والإطاحة برأسه. أما بقية الفقرة فتمثل في ترجمة الشعارات الكبرى للثورة في صورة مجموعة مترابطة من الإصلاحات الملحة والقابلة للتطبيق المباشر، فلا يهم أن يكون لديك تصور شديد الروعة والنصوع للدولة والمجتمع المنشودين إذا لم يكن لديك في الوقت نفسه تصور لما ينبغي اجراءه الآن وفورا كخطوة أولى صوب تحقيق هذه الأهداف الكبرى. يبدو الأمر كما لو أن الثورة المصرية طرحت علينا اسقاط نظام متعفن وفاسد، عماده القهر الوحشي لشعبه ونهب شره لا تحده حدود لثرواته، ثم أحالتنا في المقابل لمبادئ وقيم ولصورة متخيلة لمجتمع ودولة منشودين، مستنكفة في الوقت نفسه عن الإجابة عن السؤال الأكثر الحاحا، ألا وهو: ماذا نحن فاعلون الآن؟ ومن المفارق أن جعبة الثورة المصرية حملت (ومازالت) زخرا من الاصلاحات الملحة القابلة للتطبيق المباشر، غير أن هذه بقيت "مقترحات" و"مطالبات" مجتزأة، تطرح هنا وهناك من قبل اصحابها، أو في دراسات وندوات وبرامج حوارية، ولكننا لم نرها في يوم ما تتخذ صورة برنامج عمل مباشر تتمسك به الجماهير المنتفضة وتصر على تطبيقه الفوري، وذلك بقدر اصرارها على "رحيل" مبارك. ولعلنا في هذا الصدد نتوقف سريعا عند جانبين جوهريين من جوانب "مشروع الانتقال" الغائب. الأول هو المتعلق بمسألة الاحتكام للصندوق. من الخطل في الحقيقة تصور أن ثورة شعبية أداتها انتفاض الشارع تقوم فور نجاحها في التطويح بالنظام الحاكم، أو برؤوسه، بالاسراع بالذهاب إلى صناديق الاقتراع وفقا لنفس البنى المؤسسية والقانونية والسياسية والاجتماعية التي ضمنت لعقود طويلة أن يكون الصندوق (بالتزوير وبدونه) مجالا (ثانويا في الحقيقة) لإعادة انتاج النظام ذاته. القضية ليست هل تذهب للاقتراع ولكن كيف، من يقوم عليه، وما هي الضمانات المؤسسية والقانونية والسياسية لأن يكون التصويت حرا بالفعل، خاصة في ظل التغلغل شديد العمق والاتساع لبنى الهيمنة العائلية والقابلية والمالية وثيقة الصلة بسلطة الدولة وأجهزتها الأمنية والادارية؟ الثورة المصرية أسلمت الانتقال بصناديقه للمجلس العسكري متحالفا مع الإخوان المسلمين، فكان ما كان. أما المسألة الثانية فتتعلق بالطبيعة المدينية للثورة المصرية، وهي في هذا تشابه الكثير من الثورات الكلاسيكية في التاريخ الحديث، والثورة الفرنسية في مقدمتها. هناك، كما عندنا، كان الريف أسيرا للثنائية التقليدية للدولة والدين، ولم يكن للفلاحين أن يؤيدوا الثورة بدون إجراءات فورية للإصلاح الزراعي. هكذا كان الأمر في الثورة الفرنسية، وهكذا كان في الثورة الروسية، وهكذا كان في حركة الجيش في مصر في 52. أما ثورة يناير 2011 فبدأت مدنية وبقيت كذلك، تاركة الريف المصري احتياطيا استراتيجيا جاهزا للثورة المضادة، فكان ما كان. سيسارع الكثيرون ولا شك بالقول بأن ما سبق كان ضربا من المحال، فقوى الثورة المضادة كانت تعمل على قدم وساق على اختطاف الثورة المصرية واجهاضها. ربما، ولكن ما فائدة التجربة إذن إذا لم تكن في محاولة قراءة دروسها؟ ويبقى السؤال: لماذا لم تطرح الثورة المصرية على نفسها مجرد محاولة القبض على مسار الانتقال؟. لمزيد من مقالات هانى شكرالله