مع اقتراب الذكرى الأولى للثورة، من المفيد مراجعة بعض المواقف والتعريفات. ولعله من الأصح ألا يُقال إن المجلس العسكرى فشل فى تحقيق مطالب الثورة، وإنما يُقال إنه نجح فى عرقلة انطلاقة الثورة، كما أنه تألق فى وضع الحواجز على مسارها وأمام تطورها! وكان الغريب أن يتفق أعضاء المجلس على موقف التصدى للثورة وهم ليسوا حزبا سياسيا ببرنامج واحد ولا ينتمون لكتلة تحت شعار واحد ولا لجماعة فكرية متجانسة!! مما يُثير سؤالا عن الهدف الجامع الذى اصطفوا له معا كالبنيان المرصوص! وهل هنالك سوى المصلحة المشتركة، وما قد يساندها من تلبية مصالح خارجية إقليميا وعالميا؟ إن قراءة أحداث الثورة، وما قبلها وما تلاها، تؤكد أن المجلس العسكرى استفاد من الثورة بأكثر مما أفادها، وأن مقولة حمايته للثورة لم تصْدُق إلا بقدر مساعدة الثورة له فى الإطاحة برأس النظام ووريثه وعصابتهما الذين كانوا يهددون بالقضاء على المجلس العسكرى فى حال نجاح مشروع التوريث الذى كان وشيكا، وكان غرض الوريث الوهمى أن يبنى ولاءات جديدة له بعيدا عن أعضاء هذا المجلس، أى أن اشتعال الثورة منح المجلس الشرعية للقضاء على خصومه! وأما موقف المجلس الحقيقى من الثورة فقد تجَلّى بعد استتباب وضعه، وقد اتسم بالتصدى للثورة والثوار بالعنف واستخدام القوة التى وصلت فى إحيان كثيرة إلى ما لا يمكن تخيله! ولم يعد الخطر الأمنى يهدد النشطاء السياسيين فقط، وإنما تحققت المساواة مع المواطن العادى الساعى للرزق والستر بتساهل المجلس غير المفهوم مع غياب الشرطة وتقاعسها عن أداء واجباتها. أضف إلى ذلك تحالفات المجلس المتغيرة والمتذبذبة بهدف تطويق الثورة، وقد دَلّت جميعها على عدم إدراك بديهيات الواقع المصرى المعقد وعلى افتقاد الخبرة السياسية لدرجة أن الأمور كانت تتغير ولحقت بالثورة جماعات لم تشارك من قبل، وانضمت للتظاهرات أجيال جديدة بتصورات جديدة، ولكن المجلس لم يتزحزح! وهكذا تحالف أولا مع التيارات الإسلامية، وكانت التعديلات الدستورية هى الثمرة، وسوف يفصح المستقبل عن أسباب الجفوة بينهما بعد هذا الطور الأول من عمر الثورة، ثم لجأ بعدها إلى التحالف مع فلول نظام مبارك وحمايتهم من العزل وإفساح المجال لهم لدخول الانتخابات، فى تحد سافر للرأى العام ولروح حكم القضاء الذى أعلن إسقاط حزبهم بعد إدانته بالفساد والإفساد والتخريب، ولكن الشعب أفشل خطة هذا التحالف الأخير بالتصويت فى الانتخابات! وفى كل الأحوال حرص المجلس العسكرى على أن تبقى ماكينة دعاية مبارك، من صحف وتليفزيون، على حالها، أى أن تستمر فى خدمة الحكام الجدد، وحتى الإجراءات الشكلية فى تغيير بعض الأسماء والأشخاص، فقد جرى إلغاؤها عمليا بإتاحة الفرصة للمبعَدين إداريا بالكتابة والظهور على التليفزيونات للنيل من الثورة ومشروعها العملاق. وكان بعض هؤلاء الفلاسفة قد هلّلوا، وهم مقيمون تحت يافطة الفكر الاستراتيجى، لما أسموه مفاجأة الحزب الوطنى فى فوزه بنحو 98 بالمئة من مجلس الشعب فى أكبر انتخابات جرى تزويرها فى عهد مبارك، ولكنهم بعد اشتعال الثور، فقط بعد ثلاثة أشهر من شهادتهم الزور، باعوا مبارك ونجله، وحاولوا تبرئة أنفسهم استعدادا للحاق بالركب الجديد، وراحوا يزعمون أن ما تصوروه مفاجأة كان مجرد خطأ منهم فى الرصد والتحليل! الجدير بالنظر والتمحيص من إبداعات المجلس العسكرى هذه الأيام هو اللجوء إلى تخويف المواطنين من أخطار داهمة قادمة، مع الإيحاء، وأحيانا التصريح، بأن المجلس كفيل بها فى حالة امتثال الجماهير واستكانتها لرؤيته ولسياساته! ومن ذلك حملة الترويع الهائلة التى انطلقت مؤخرا تردد فى تكرار غريب مخاوف عن مؤامرة إجرامية ضد مصر وأنها تخطط لإسقاط الدولة بعد نحو الشهر، وأن المعلومات المؤكدة باتت متاحة! ولكن كيف تتحول قضايا الأمن الوطنى ومخططات جرائم تخريب البلاد إلى فوازير مُربكة للمواطنين؟ فلقد ناشد المجلس العسكرى المواطنين أن ينتبهوا، ثم، وكأنه يمارس فنون التشويق المعتادة فى أفلام الإثارة، لم يُصرّح بأية تفاصيل تجيب على الأسئلة التى زرعها زرعا فى أذهان المواطنين، وأهملهم وهم ينتظرون وقوع البلاء ليعرفوا عندها فقط ماذا كان يُحاك ضدهم! ولكن، لماذا لا يقوم المجلس، وهو الحاكم المسؤول الآن عن حكم البلاد وأمنها ووضع تشريعاتها، وما دامت توافرت له المعلومات الكافية، بإحباط هذه المؤامرة والدفع بالمتهمين إلى القضاء؟ أو إذا كان المجلس قد ارتأى، لحكمة ما يعرفها ولا يعرفها غيره، تأجيل التعامل مع المؤامرة، فلماذا يعلن الجماهير بها ودون أن يكون هناك دور متوقع للجماهير؟ ويذكر المواطنون أنه قد سبق هذه الفزورة تصريح غريب من أحد القيادات نبّه فيه الشعب من أن اثنين من مرشحى الرئاسة المحتملين عميلان لدولة أجنبية، وقال إن لديه إثباتات، ولكن عندما طُلب منه أن يحددهما راوغ وماطل وقال إنه يتركها لذكاء الشعب المصرى الواعي! ورفض أن يقدم بلاغا للنائب العام بمعلومات يُستدعى العميلان بمقتضاها للتحقيق! وترك الرأى العام نهبا لأسئلة لا إجابة لها عن مَن يكون العميلان من المرشحين، ولماذا ينطلق العملاء أحرارا إلى درجة قد تسمح لأحدهم أن يصل إلى المنصب الرفيع!! ومن الغرائب أن المجلس العسكرى غضّ البصر عما رآه العالم أجمع على شاشات الفضائيات على الهواء مباشرة فى موقعة شارع قصر العينى قبل أسبوعين، ولم يجد أحد تفسيرا لصالح المجلس العسكرى فى عدم إلقاء القبض على المعتدين على المتظاهرين من فوق المبانى الخاضعة لسيطرة كاملة من قوات الجيش، ووصل الأمر إلى أن تقدّم عدد من الباحثين بالأمانة العامة لمجلس الشعب ببلاغ ضد المجلس العسكرى وأمين عام مجلس الشعب ونائبه، أشاروا فيه إلى ضلوع الأمين العام ونائبه فى حشد أعداد كبيرة من عمال اليومية ورسما لهم خطة أن يعتلوا أسطح مبانى المجلس، وزوّدوهم بكل المقذوفات الممكنة لإلقائها على المعتصمين والمتظاهرين، وفى المقابل يجرى تثبيتهم وظيفيا!! ومن ناحية أخرى، وفى حين يوجه المجلس العسكرى حملات مكثفة ضد الثوار ويتهم بعضهم بالعمل وفق أجندات أجنبية، لم يبد أى موقف إزاء حديث البعض عن تأسيس جمعية للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأعلنوا صراحة أنهم يخططون وفقا لما يجرى فى الأراضى المقدسة، ولم ير المجلس فى هذه تبعية لأجندات أجنبية!! فى حين أبدى حزب النور السلفى اهتماما بخطورة الموضوع وأعلن براءة الحزب من هذه الفكرة! وهكذا تأتى الذكرى الأولى للثورة وقد تحددت الخنادق، وبات الوضع حرجا بعد أن اتضح الاستقطاب الكبير، ولم يعد أمام الثورة إلا أن تضغط لإزالة المُعوِّقات والمُعوِّقين.