أكثر ما يطمئنك ويريحك فى المشاهد البديعة للإقبال الكاسح للمصريين بالخارج على التصويت، أن هذا الشعب راغب حقا فى الديمقراطية وفى تثبيت قواعدها، مهما كانت الصعاب والمعوقات وأنه ليس من السهل خداعه، أو التأثير على إرادته وطموحه فى التغيير، وأنه يعى تماما حرج اللحظة التى تمر بها البلاد، وأنه لا مجال لا قدر الله للفشل، فمصر غير قادرة على تحمل المزيد من التجارب الفاشلة. كما تطمئنك البروفة الخارجية على أن النسخة الداخلية للانتخابات الرئاسية ستكون رائعة بل ومن المتوقع أن تكون مبهرة حتى تخرس كل الألسنة الزاعمة أن المحروسة على موعد مع عودة الديكتاتورية وتكبيل الحريات، وأن فئة قليلة من المواطنين سوف تشارك فى اختيار الرئيس الجديد، ويسهل بالتبعية التشكيك فى شرعية وجوده بالحكم. بناء عليه، وبدون استباق للأحداث والنتائج، فإن نظرنا لابد أن يتجه لما هو أبعد وأعمق من الانتخابات الرئاسية بغية ترتيب البيت من الداخل، وأن يصبح السباق الرئاسى طبعة 2014 حجر الزاوية فى نفض غبار عقود من الترهل والتعثر والتخبط على درب التقدم والتحديث، حتى نحس ونلمس عائد التغيير وثورتى 25 يناير و30 يونيو. ولكى نمهد التربة لهذه الغاية المهمة الدقيقة فعلينا الالتفاف حول مشروع قومى يجمع صفوفنا وسواعدنا ولا يفرقها، والمجتمع هو المنوط به رسم ملامح ومسارات هذا المشروع وليس الرئيس القادم بمفرده، وهنا يتحتم استنفار واستنهاض همم الجميع من الكبار والصغار، وتشجيعهم على طرح أفكارهم ورؤيتهم لمكونات وغايات مشروعنا القومى الغائب. فبلدنا فى العهد الناصرى كان محظوظا بمشروع عملاق رائد هو السد العالى إلى جانب تحسين الأوضاع المعيشية للمحرومين والفقراء، هذا المشروع القومى لم يتحقق بكامله فى حياة عبد الناصر ولم يحرص الذين جاءوا من بعده على استكماله، فمشكلتنا العظمى أنه لا يوجد تراكم للمنجزات والخبرات نبنى عليه، فكل مسئول يشغل منصبه يظن أن العناية الالهية ساقته لتصحيح أخطاء وخطايا السابقين عليه، ولذلك فإن مصير مساعينا للنهضة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الاخفاق الذريع. فضلا عن عدم قدرتنا على توظيف اللحظات الاستثنائية فى تاريخنا بما تمنحه من قوة دفع وشحذ للطاقات والابداع، جربنا هذا بعد انتصار 73 الذى لو كنا استثمرنا ما ولده من طاقة إيجابية لكان حالنا غير الحال، وتكرر ذلك إثر اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات، إذ سرعان ما تتلاشى وتفتر عزيمتنا لمواصلة ما بدأناه من خطوات عظيمة، مثلما حدث بعد تنحى مبارك، فالناظر لوقائع ومجريات 18 يوما من الثورة لا يمكنه القول الا أن من شاركوا فيها هم أنفسهم من تفرغوا بعدها لتحطيم وتقويض الجبهة الداخلية وإفقادها توازنها وتماسكها. وكلى أمل أن يتمحور مشروعنا القومى المنتظر حول التعليم الذى يشكل طوق نجاتنا مما يعترضنا الآن من متاعب وما سيعترضنا منها مستقبلا. والشق الثانى المطلوب لترتيب بيتنا من الداخل أن يقوى عود المعارضة الوطنية ويشتد، وبدون مواربة ولا تجميل للعبارات فإن أحزاب المعارضة التقليدية المؤسسة منذ نهاية سبعينيات القرن الماضى أمامها خيار من اثنين، إما أن تعيد تشكيل هياكلها وتوجهاتها بأسرع ما تستطيع، للوصول لرجل الشارع العادى الذى لا يعرف عنها سوى ما يطالعه بين الحين والآخر من تغطية الفضائيات والصحف السيارة لخناقات وخلافات قياداتها، أو أن تمتلك الشجاعة اللازمة للانسحاب من الساحة السياسية والاقرار بعدم قدرتها على مواكبة المتغيرات والانطلاق بنفس سرعة ايقاعها. وبالنسبة لطوفان الحركات الثورية والشبابية الذى اكتسح البلاد عقب 25 يناير فإن عمر غالبيتها قصير ، والقادر على الصمود منها فاقد لبوصلة التوجيه ويعانى من التشويش، نظرا لما تعرض له من اختراقات من قوى داخلية كجماعة الإخوان وأخرى خارجية، علاوة على غلبة الذاتية المفرطة وعدم مراعاة المصلحة الوطنية فى كثير من المواقف والأزمات الفارقة إبان السنوات الثلاث المنصرمة. نحن فى احتياج لنظام سياسى تعددى ينبع من وسط الناس ويعبر عنهم وعن طموحاتهم، ويكترث بالمصلحة العامة وليس مظاهر الأبهة والوجاهة وجنى الثمار فى صورة شهرة زائفة ،وأموال تضاف للحسابات البنكية، والمتاجرة بقضايا وهموم البسطاء فى بقاع مصر. وبخصوص الجانب الثالث الواجب العمل على تحقيقه، فإنه يتصل بفرض سطوة القانون، فالانفلات أضحى فلسفة حياة للكثيرين على أرض الكنانة، مما يستلزم من المجتمع السعى جاهدا لإنجاز هذا الهدف على وجه السرعة. والفارق شاسع ومهول بين سطوة القانون وبطشه، فما نحتاجه هو أن يفكر المواطن ملايين المرات قبل الاقدام على مخالفة القوانين، مثلا تحت ذريعة البحث عن لقمة عيش حلال، فالقانون فى نظرنا لم يكن أداة من أدوات المحافظة على ركائز الدولة وهيبتها، لكنه وسيلة انتقام وأداة يساء استغلالها من قبل الساهرين على تطبيقه دون تمييز، وذاك ميراث ضخم يتعين التعامل معه بتبديل فكر المناهج التعليمية، فالطالب يربى على الكسل وعدم تنمية القدرات الذهنية، بينما يسود بيننا أن الشطارة والمهارة أن تتفنن فى ابتكار أساليب للتحايل والالتفاف على القانون، وإذا ضبطت بالجرم المشهود مخالفة القانون فكل ما عليك فعله أن تهرب إن أمكن ، وإن لم تقدر تحجج بالجهل. إن مصر تقف على عتبة صفحة جديدة من تاريخها الحديث وواجبنا الاستعداد لها دون تباطؤ. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي