من يقرأ كتابات المفكر التركى البارزمحمد فتح الله (كُولِنْ) الذى يتردد اسمه كثيرًا هذه الأيام باعتباره معارضًا صلبًا للتيار السياسى الذى يحكم تركيا الآن: يدرك بجلاء من خلال تلك الكتابات المترجمة إلى العربية أن (كُولِنْ) لم يكن مجرد خصم مُعاِرض لذلك التيار فى حَلَبة المعترك السياسي، أو ساحة النشاط الحزبى أو البرلمانى فحسب، بل إنه - أعنى (كُولِنْ) - يُجَسِّد - فكريًا ومنهجيًا- القطبَ الذى يقف على شفا النقيض من فكر خصمه المُعَارض، بحيث تبدو تلك الخصومة السياسية المستعرة بين الطرفين: «مَظهرًا» لِتَنَاقُضٍ وجودى حاسم فى الجوهر والتوجه، وفى المنطلقات والغايات. ينتمى محمد فتح الله (كُولِنْ) - إلى تيار فكرى يمكن اعتباره: صدىً لتجليات وتأملات الفيلسوف الصوفى الفذ «جلال الدين الرومى» ذلك الذى عاش فى مدينة (قونية) التركية إبان القرن السابع الهجرى وصاحب الديوان الأشهر (ديوان شمس تبريز) وصاحب «المثنوى»، وكلاهما من عيون الكتابات الصوفية الباذخة التى ظفرت بعديد من الترجمات إلى العربية، وإلى عدد من اللغات الأوروبية، وحَسْبُك أن تقرأ بعض «عنوانات» مؤلفات (كُولِنْ) لتلمس - بجلاء - أنه يستقى من مَعِين جلال الدين، ذلك المَعِين التأملى الوجدانى الشفيف، ككتابه (ترانيم روح وأشجان قلب) وكتابه (التلال الزمرُّدية - حياة القلب الروح)، وكتابه (نحن نقيم صروح الروح)، وكتابه (أضواء قرآنية فى سماء الوجدان) وغيرها من الكتابات التى تنحو هذا المنحى ذاته. فلقد كان (كُولِنْ) - كما يتبَّدى جليًا من كتاباته تلك: يبتغى أن يَبُثَّ فى الوجدان الإنسانى بعامة: ثراء الروح، ودَفْق العاطفة، ويقظة الوجدان، بمنجاة من ظاهرية الفكر، وجفاف العاطفة، وتيبُّس المشاعر، تلك العوامل التى أصابت الصورة الذهنية للإسلام - زوراً وبهتانًا- باتهامات العنف المقيت، والإرهاب الدموي، والغِلظة القاتمة، كما أن (كُولِنْ) - كما يتبدَّى من كتاباته أيضًا - قد ابتغى - فى الآن ذاته - أن ينأى بالإسلام عن (لِعَب السياسة) - على حد تعبيره الحرفى المُترَجم - تلك التى صبغت صورة الإسلام ببراجماتية شوهاء، عكّرت هى الأخرى من صفو تلك الصورة ونقاءها، كما أنها دفعت بالمسلمين:إلى أتون العداء والاقتتال، وساحات التنابذ والتناحر! فى كتابه (الموازين.. أضواء على الطريق) يعبر (كُولِنْ) عن فيضٍ من تلك المشاعر الوجدانية الرقراقة، فنحن حين نقرأ القرآن الكريم - كما يقول - نكون كأننا قد امتلكنا أجنحة نطير بها إلى حظيرة القدس، ومن خلال التأمل فى أسماء الله الحسنى نكادنلمس بأفئدتنا: نظام الكون والتناسق البديع بين مكوناته، ونسمع النغمات المؤتلفة التى تصدح فى أرجائه، وبذلك تنتشى أروَاحُنا -حتى الثُّمالة - بأسرار هذا الوجود - عُلوِّيه وسُفليّه، وفى هذا الإطار تُضحى العبادة - فى نظر (كُولِنْ) - نبعًا فياضًا للاغتراف من معين الحقيقة، كما تمسى «إكسيرًا» سحريًا لإصلاح رُعُونات النفس وأدوائها، مما يجعل الكائن البشرى أشبه بالملائكة، وأقرب إلى (الإنسان الكامل) الذى يمثل النموذج الأمثل للذات الإنسانية الطامحة دومًا إلى السُّمو والعُلُوُّ. أما فى كتابه (التلال الزمردية) التى يرمز بها إلى (الأحوال والمقامات) لدى جلال الدين الرومى وعامة المتصوفة: فإن (كُولِنْ) يغوص بالتحليل المرهَف - مستخدمًا اللغة المكثَّفة المرهَفَة فى آن معًا- حتى يبلغ أدق خَطَرات النفس البشرية وخَلَجَاتها، هبوطًا وارتقاءً، ودنوًا وارتفاعًا، وهو تحليل لا يقف عند حد التنظير التأملى الجاف المجرد، بل يتعداه إلى عمق الممارسة الوجودية الباطنة التى تبلغ شغاف الوجدان، ثم تعلو «بالحدس الصوفى» إلى أسمى آفاق البصيرة. بيد أن (كُولِنْ) لم يقف عند حدود هذه التأملات الوجدانية السامية، ففى السنوات السبعينيات أبدى (كُولِنْ) اهتمامًا ضافيًا بالشأن السياسى العام، فاستعرض فى كتابه (الموازين) بواعث الفرقة والاختلاف بين المسلمين، منتقدًا «زعماء الجماعات الإسلامية» - على حد تعبيره المُترجَم - «لاستغراقهم فى حب الشهرة، ومنافسة بعضهم بعضًا باسم الإسلام، ومنتقدًا - أيضًا - ستَرقّبهم للثمرات الآنيَّة فى كل عمل صغير أو كبير»، ثم توجّه بالنقد اللاذع إلى من يتخذ من «الحيل و«اللِعَب السياسية» - على حد تعبيره المُترجَم أيضًا - أسلوب حياة، قائلاً «إن أصبحت الحيلة والخداع فى نظر أمة: دليل عقل وذكاء، فاعلم أن السرطان قد بدأ يسرى فى جسد هذه الأمة سريانًا لا يُرجى منه شفاء، وحينئذ فإن بدا بعض التحسن من هذه «اللِعَب السياسية» فليس ذلك سوى سِمْنَة سببتها الأورام الخبيثة! ثم تزداد نبرة (كُولِنْ) حِدَّة فى انتقاد «لِعَب السياسة» على حد تعبيره حين يضيف فى كتابه (الموازين) أيضًا قوله: إن كثيرًا من الناس فى أيامنا الحالية يرون أن السياسة عبارة عن حزب ودعاية وانتخابات وصراع للوصول إلى الحكم، وليست (اللِعبَ السياسية)فى هذا المضمار سوى وسيلة إلى خداع الناس وتصوير الأمور غير المشروعة وكأنها مشروعة، ثم يختم ذلك بقوله مُتَحسِّرًا (أين السياسة الشرعية المرتبطة بالحق والعدل من تلك السياسة الغارقة فى مستنقع الكذب والخداع)؟ ثم أقول أخيرًا: أفليس هذا الصراع الذى نراه الآن فى ساحة السياسة التركية بين (كُولِنْ) وخصومه يُجَسِّد تناقضًا فى جوهر الرؤية الكونية والوجودية بين من انحاز إلى «نقاء الروح وصفاء البصيرة»، وبين من انحاز إلى «لُعْبَة السياسة» بكل أحابيلها وأوحالها، وأزقَّتِها الملتوية؟ ولو أن «لِعَب السياسة» هذه قد وقفت عند حدودها وآفاقها النسبية باعتبارها نشاطًا بشريًا خالصًا لا قداسة له: لكان فى ذلك مَنْدُوحة، ولكن الخطر كل الخطر والبليَّة كل البليَّة: أن تتضخم تلك «اللِعًب السياسية» فتمسى ضربًا من «الجهاد» المغلوط، ومن ثم مناطًا للحِلّ والحُرمَة تارة، وموئلاً «للإيمان والكفر» تارة أوالتفسيق والتبديع تارة أخرى، فَتُسْتَحلُّ فى سبيلها دماء، وتَتَنَاثَر أشْلاء! لمزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى