« لا شك أن النشأة الأولي لي حلم بالهوي لولي من أولياء الله وشجرة حياة خرافية، لا شك أن طفولتي وشبابي قضيتها كنت أجرب في المتلقي والتلقي والإبداع بحثاً عن الخلاص الذي أجده في أحضان الصوفية والطريقة القادرية والبتشيشية والرفاعية والأحمدية وفي عين حبيبتي النبية / 383« التصوف إسراء في النفس يجعل الإنسان يسمو بروحه فوق مطالب الجسد الدنيوية، فيشف البدن وتتحرر الروح وتتصل بأصلها الإلهي مما يمكّنها من تكشّف المستقبل والرؤية السليمة ومن ثمّ يتمكن الإنسان من الإمساك بعجلة الزمن ويسعي إلي التغيير الحقيقي. من هذا المنطلق تظهر الرؤية الصوفية العميقة في رواية « قهوة سادة « للكاتب الكبير السيد حافظ، ليس في مجرد لغة شفيفة ذات محمولات دلالية صوفية، وإنما في كونها رواية ملحمية يتنقل فيها القارئ من مصر الفرعونية إلي مصر الحديثة والشام، في محاولة لسبر أغوار الشخصية المصرية في واقعتين فاصلتين من تاريخ مصر: ثورة إخناتون وهزيمة 67، ثم يجمع الكاتب تلك المشاهد المتوالية - الأشبه بالمشاهد المسرحية - في توليفة واحدة من خلال الرؤية الصوفية التي دخلت ساحة الإبداع الأدبي بوصفها أحد العناصر المهمة في التيارات الحديثة وخاصة السريالية، فمكّنت الكاتب من التحرك برشاقة عبر الزمان والمكان ليركز علي موضوع وحداوية العالم وانبثاقه من ذات واحدة ألا وهي الروح . مقام الفناء تتمظهر الرؤية الصوفية بجلاء في الرواية، إذ تسلّم بالفناء - أحد مقامات الصوفية - متخذة من « القهوة السادة « وحدة دلالية لترسل للمتلقي منذ العنوان إيحاءً بالفناء الجسدي وغرائزه، وهو ما يؤكده الكاتب في «صدر الرواية« :«أنسي أنّ النساء جسد من لحم ودم وأتذكر أنهن عطر له روح /9«، وهي من ثمّ وسيلة للتنبيه الروحاني، « القهوة قبلات للروح كي تنهض [...] أكره أن روحي تغفل وعقلي يتوقف عن التأمل / 266«، فالقهوة لصيقة بمجالس الذكر الصوفية، إذ تعطي فسحة للتأمل وتجذب الإنسان نحو التسامي عن مطالب الجسد الدونية. وفي أول تقدُمة لدلالة « القهوة السادة « يربطها الكاتب بفساد الحكام الذين يشربون القهوة علي أرواح أعوانهم عند قتلهم للانفراد بالسلطة ، فتبدو ثورة الكاتب علي الجسد المصري الهجين الذي يتسيّده الخدم والرعاع محبو التملق والنفاق، وتعلو فيه رؤوس فساد لا تنظر إلا إرضاء نزواتها. إنّ الجسد في نهاية الرواية يذوي تدريجياً حتي يصل إلي الفناء وعندها تتطهر النفس من جميع الأدران، وتتمكن من الرؤية بطريقة سليمة، واستقراء أحوالها بصورة أكثر وعياً كما قام الكاتب نفسه بذلك من خلال تأمله في التاريخ ، فيوجّه رسالة مخبأة إلي القارئ علي لسان بطل الرواية فتحي رضوان، يقول:« الوطن يذبل ويموت كالزهور ثم يحيا بعد أن نلقي فيه ببذور عشق جديدة / 35« ، فيدعو الكاتب أبناء الوطن للتطهر من الشهوات والانبعاث الروحي من جديد. وتلك الرؤية جعلت الكاتب يتحكم في عجلة الزمان فيعيدها من الحاضر إلي الماضي ثم إلي الحاضر مجدداً من خلال سياحة روحية عبر الزمان والمكان. العجلة الزمنية تركز الرواية علي موضوعة دورة الحياة وتكرار أحداثها حد الثبات، ويلتقي مقام الفناء بموضوعه الثابت التاريخي الذي يطرح الكاتب تفسيراً له طبقاً للرؤية الصوفية ؛ فإن إيثار الاستسلام للواقع بمثالبه، يعدّ قوقعة تسجن الإنسان في حيز شهواته والزيف، يقول فتحي:« كان لابد ولزاماً علينا بعد النكسة مباشرة أن يتغير المناخ الثقافي في مصر [...] كان لابد أن تتغير الكلمة وتنبع من أعماق الشعب وليس من أعماق الزيف/ 297« إنها لُعبة تغيير أسماء وشعارات فحسب وليس تغييراً حقيقياً يتدخل فيه الإنسان بقوة ليرغم تلك العجلة علي التوقف عن هزليتها، وسبب ذلك هو عدم التطلع إلي الثورة لتحسين الأوضاع ، فهو غير مستعد للتنازل عن متطلباته المعتادة خوفاً علي رزقه وعياله. بينما تظهر الحالة الفريدة للتغيير الحقيقي في إخناتون الشخصية الوحيدة التي حققت الصفاء الروحي في النص في تغييره العبادة في مصر لتوحيد شتات العقل والوجدان المصري بين آلهة دونية في سبيل الارتقاء نحو السماء ، إلا أن بناءه كان يهدم بسبب عوامل الفساد حوله، فبينما يقوم ببناء المدن والمعابد الجديدة لآتون ويدعو الرعية، إلا أن غزله كان ينقض يوماً بعد يوم من زوجته «نفرتيتي« وقائد الجيش « حور محب« والكهنة المتآمرين، «وقد أعاد الكاهن الأعظم [...] عبادة الآلهة القدامي / 392«، وهكذا نُقِض الغزل لتعود الأمور إلي ما كانت عليه. وإن كانت تلك الأحداث منذ آلاف السنين، فإن إسقاطها علي حاضر مصر بعد ثورة يناير 2011 ينقل وعي الكاتب وقلقه علي مستقبل التغيير بعد الثورة وخشية الأيدي الخفية من اللعب بالبناء فيعود النظام السابق كما كان. الثورة انطلاقاً من علاقة الأدب بالسياسة، تظهر الملامح السياسية في رواية « قهوة سادة « في تبنيها قضايا الثورة علي الاستبداد والأوضاع السلوكية بوجه عام وبث الوعي بحقيقة الأزمة العربية. ويستعين الكاتب بجوهر الرؤية الصوفية الداعية للتجرد من الدنايا والثورة علي الاحتكار والانفراد بمقومات السلطة والتي تعد من الأسس الأولي للثورة، يقول فتحي:«الطغاة كلما نهبوا طمعوا، كلما دمروا وهدموا، كلما موّناهم وخدمناهم زادوا جرأة. فإن أمسكنا عن تموينهم ورجعنا عن طاعتهم صاروا بلا حرب ولا ضرب/ 237« ، فبحسب الرؤية الصوفية يكون التجرد من الحاجات السفلي هو أولي لبنات الثورة الحقيقية. كما تتبدّي الثورة علي أوضاع المجتمع العبثية المتحكمة في السلم الاجتماعي الذي لا تحركه سوي متطلبات الجسد والسلطة وأصحاب النفوذ وما يفرز عن ذلك من فجوة كبيرة بين الطبقات، وظهور الطبقات الدنيئة التي تتخلي عن المبادئ وتستغل فاقة الآخرين. ولعل أكثر الشخصيات الصوفية وضوحاً في الرواية هي شخصية «شهرزاد« التي يقدّمها الكاتب أقرب إلي الأولياء؛ فهي حادة البصيرة تقرأ المستقبل ، وهي أول من تنبأ لسهر بزواجها وسفرها إلي الإمارات، كما تحفظ كتب السيوطي وابن حزم وطوق الحمامة وتفسّر الأحلام ويتناقل الناس عنها الأخبار. وتمثّل أحد عناصر الثورة ضد الأوضاع المجتمعية الخاطئة؛ فإلي جانب شرابها مشروب « المتي« الذي كان يشربه جيفارا الثوري المعروف ، فقد كانت تقف أمام قوي الرأسمالية التي يمثّلها التاجر شداد ، إذ أوضحت للأهالي سره وألاعيبه علي الفلاحين الفقراء ، تقول شهرزاد :« سيمتنعون عن بيع التفاح والزيتون له / 152« وهذا أساس الثورة الذي تكلّم عنه فتحي رضوان حسب الرؤية الصوفية حيث التجرد من سلطة متطلبات الجسد والتنازل في سبيل التغيير . الخلاص إن البحث عن الذات وقلق الإنسان نتيجة لغيبته عن روحه ووقوعه في أسر الجسد ، ومثال ذلك شخصية فتحي رضوان الذي يعيش حالة من القلق الوجودي وقلقلة الروح وهيامها في وديان الحيرة ، فتساوره الشكوك ولا يفتر عن طرح الأسئلة لاسيما فيما يتعلّق بالوطن والعروبة والازدواجية، يقول فتحي: « وجدتني مواطنا بلا وطن .. وجدتني مشروع كاتب في وطن أميّ / 35« . فتنقل فتحي الجسدي من الإسكندرية إلي القاهرة ثم التفكير في السفر للكويت بغية حرية التعبير، وكذا التنقل بين الوظائف والنساء اللاتي أحببهن باختلاف دياناتهن وجنسياتهن ما هي إلا ترجمة صريحة لرغبته الجامحة في البحث عن روحه. إن حالة الاغتراب الوجودي وافتقاده الشعور بالانتماء والتفكير في السفر تعبيرٌ واضحٌ عن طموح الروح اللامتناهي إلي الحرية والانسلاخ من القيود. وإن كانت حالة الشك الوجودية مسيطرة علي البطل ، فهو يحاول إيجاد طريق للخلاص من سجن العالم، وطبقاً للرؤية الصوفية، فإن وسيلة الخلاص هي التخلّص من ربقة الجسد والانطلاق في فضاءات الروح والعودة إلي قيم البداءة الأولي، والاتحاد مع سائر العصور والحضارات السالفة يقول فتحي:« من تلك المنطلقات يدخل في أحرفي العصر اليوناني والروماني والفرعوني يصيرون وحدة واحدة / 360«. وقد أعان الكاتب في تلك النظرة الوحداوية كون مسرح الأحداث هو الإسكندريةالمدينة الكوزموبوليتانية حيث تتعايش فيها جميع الأجناس والملل. وتبدو موضوعة الخلاص في أكثر مظاهرها جلاءً مع إخناتون الذي تجرّد من الاستبداد السلطوي والجسدي، فكان جزاؤه الخيانة والقتل، وجاء مشهد قتله أثناء الصلاة واختفاء جثّته ليذكرنا بالمسيح وصعوده إلي السماء، وطبقاً للرؤية الصوفية التي تتلاقي هنا مع موتيفة المخلّص فقد تحقق له الإسراء الجسدي والروحي معاً. وأخيراً ، وبإسقاط تلك الأحداث ورموز هذه الرؤية علي حاضرنا تتضح رؤية الكاتب وأمله في ظهور تلك الروح من جديد ، ومن ثمّ تتماهي مع رؤية الكاتب التي ذكرها في « الإهداء « ، يقول:« أكتب هذه الرواية بحثاً عن روح مصر المتخاذلة سبعة آلاف عام .. وبحثا عن روح مصر أخري للإنسان فيها معني وقيمة وحضارة حقيقية فعلا وقولا./ 12«. وهذا هو جوهر الرؤية الصوفية الناضجة بما تحمله من مدلولات ثورية تدفع نحو التغيير .