المقصود بمصطلح اليسار الجديد الوارد فى عنوان هذا المقال هو التيار السياسى الذى نشأ فى فرنسا فى الخمسينيات، وفى بريطانياوأمريكا فى الستينيات من القرن العشرين. وهو التيار الذى تزعمته حركة الطلاب فى عام 1968 وكان الفيلسوف الأمريكى من أصل ألمانى هربرت ماركوزه هو الأب الروحى لذلك التيار، وجاء كتابه المعنون «التحرر» (1969)، والذى كان ثمرة كتابات سابقة، متسقاً مع الأفكار التى كانت سائدة لدى حركة الطلاب. ومن هنا أهدى ماركوزه كتابه إلى متمردى أو ثوار عام 1968. واللافت للانتباه أن تلك الحركة قد نشأت إثر ثورة المجر فى عام 1956 ضد الحكم الشيوعى الديكتاتوري، واتخذت من كلية الاقتصاد اللندنية مركزاً لها. وفى عام 2002، أى إثر أحداث 11 سبتمبر بعام، صدر كتاب عنوانه الرئيسى «صراع الأصوليات وعنوانه الفرعى ز غزوات الصليبيين والجهاديين والحداثة» من دار نشر ز فرسوس وهى أكبر دار نشر يسارية فى بريطانيا.ومؤلف الكتاب بريطانى من أصل باكستانى اسمه طارق على. كان رئيساً لاتحاد الطلاب بجامعة أكسفورد، وعضواً بارزاً فى حركة 1968، وكذلك كان فى ز الجماعة الماركسية الدوليةس. ثم أصبح بعد ذلك عضواً فى ز مجلة اليسار الجديدس التى تأسست عام 1962. وإذا كان قد قيل عن أحداث 11 سبتمبر عام 2001 إنها مأساة فالمأساة لا تحدث فى لحظة، إذ لها مسار. فما هو هذا المسار؟ هل هو إقليمى أم كوكبي؟ إنه كوكبى بحكم أنه محكوم بدولة واحدة مهيمنة هى أمريكا، إذ هى أصبحت كذلك بعد انهيار الاتحاد السوفيتى فى عام 1991، ويقول عنها طارق على ومعه التيار اليسارى الجديد إنها دولة استعمارية. والسؤال إذن: هل تعنى هيمنة أمريكا أو استعماريتها أن العالم أصبح خالياً من أى صراع؟ عن هذا السؤال أجاب مفكر أمريكى اسمه فرنسيس فوكوياما فى كتابه المعنون «نهاية التاريخ والانسان الأخير» الذى صدر فى عام 1992، أى إثر سقوط الاتحاد السوفييتى بعام. فكرته المحورية أن الديمقراطية الليبرالية هى نهاية الصراع الأيديولوجى الذى كان حاكماً للمجتمعات البشرية فى تطورها. ومع هذه النهاية توارت القوميات والأصوليات. وهنا اعترض طارق على قائلاً: ما الرأى فى تصاعد الأصوليات الدينية مع بداية القرن الحادى والعشرين؟ ولكل منها عدو. عدو الأصولية اليهودية وجود اسرائيل، وعدو الأصولية المسيحية علمانية أمريكا فى تأييدها للإجهاض والشذوذ الجنسي، ومع ذلك فإنها تحرض أمريكا والغرب على محاربة الحضارات المنافسة لهما، وفى المقدمة الحضارة الاسلامية والحضارة الهندوسية لأنهما إذا اتحدا فنهاية الحضارة الانسانية نتيجة حتمية. وعدو الأصولية الاسلامية أمريكا والغرب لأنهما كافران، بل إن عدوها أيضا حكام الدول الاسلامية لأنهم ليسوا مسلمين حقيقيين، ومن ثم ينبغى قتالهم من أجل تأسيس إمارات اسلامية مقدسة. المفارقة هنا أن طارق على يرى أن الهوية الدينية هى الأساس التى من أجلها تقوم الأصوليات بإشعال الحروب، وأن أمريكا هى أم الأصوليات لأنها تغذى العناصر اللاعقلانية الكامنة فى تلك الأصوليات، ومع ذلك فإنها صُدمت إثر أحداث 11 سبتمبر ببيان من أسامة بن لادن يعلن فيه أن « الله أصاب أمريكا فى مقتل» كما صُدم مفكرو أمريكا وأصدروا بياناً فى الثالث عشر من سبتمبر، أى بعد يومين من تلك الأحداث، دفاعاً عن القيم الأمريكية التى ترفض القتل الجماعى للأبرياء. ومع ذلك فقد كان رد فعل الادارة الأمريكية مناقضاً للبيان على نحو ما ارتأى طارق على، إذ شنت إرهاباً ضد العالم الإسلامي، وهو أمر مرفوض. فليس من المقبول مقاومة ارهاب بإرهاب مضاد لأنك فى هذه الحالة تتساوى مع عدوك فى التعصب الأمر الذى من شأنه أن يفضى إلى توسيع دائرة الارهاب، ومع توسيعها فى إطار انتصار ايديولوجيا وانهيار أخرى منافسة تضيق مساحة الحوار وإمكانية الاختلاف وبالتالى تنهار الديمقراطية الليبرالية. وبناء عليه فان طارق على ومعه اليسار الجديد ينحاز إلى رؤية الأصوليين فى معاداتهم لأمريكا. من ثم يمكن القول إن المقصود من عنوان كتاب طارق « صراع الأصوليات» أنه فى صميمه ليس صراعاً بين الأصوليات إنما هو صراع الأصوليات ضد أمريكا العلمانية. وهكذا يصدر ذلك الكتاب فى اطار مناقض لكتاب صموئيل هنتجتون المعنون «صراع الحضارات» حيث ارتأى أنه على الرغم من نهاية الصراع الايديولوجى فإن هذه النهاية لا تعنى نهاية التاريخ، إنما تعنى أن الصدارة للثقافة وليس للسياسة أو الاقتصاد، ويكون من شأن هذه الصدارة حدوث انشقاقات على مستوى كوكب الأرض، ويكون من شأن هذه الصدارة أيضا أن يصبح الدين هو القوة المحورية التى تحرك الشعوب وتدخلها فى صراع بين «الغرب وما تبقى» على حد تعبير هنتنجتون . وكان يقصد بقوله «ما تبقى» الأصوليين الأعداء. ومن هذه الزاوية يمكن القول إنه لا خلاف بينهم وبين اليسار الجديد. والرأى عندى أن إشكالية طارق على تكمن فى رؤيته المعبرة عن اليسار الجديد فى التناقض القائم بين الاستعمار الأمريكى وما تبقى. وإذا كانت الإشكالية تعنى التناقض فالتناقض كامن فى لفظ «استعمار» وأنا أوثر عليه لفظ «استثمار» لرفع التناقض على النحو الآتى: بحكم تعريفى للإنسان بأنه «حيوان مبدع» فالتقدم مرهون بتفجير الطاقات الابداعية للإنسان، والتخلف مرهون بكبت هذه الطاقات، وبالتالى فان المتخلف هو الذى يستدعى المتقدم لأنه عاجز عن استثمار ذاته فيتوهم أن الآخر المتقدم كفيل بإزالة هذا العجز، فى حين أن المتقدم لن يكون منشغلاً إلا بمزيد من التقدم تاركاً وراءه المتخلف. لمزيد من مقالات مراد وهبة