إذا كنت علي اعتقاد أن مجرد وجودك في هذا القرن يعني دخولك فيه فأنت واهم, إذ ثمة شرط لازم ومطلوب لذلك الدخول. فما هو هذا الشرط؟ ومن الذي اكتشفه؟ الشرط هو الوعي ب الكوكبية, الذي اكتشفه اسمه جون كنيدي وهو أستاذ التاريخ بجامعة ييل بأمريكا. وقد تناول هذا الاكتشاف في كتابه المعنون التأهب لدخول القرن الحادي والعشرين. وقد جاء اكتشافه لذلك الشرط في أثناء حوار كان قد دار بينه وبين جماعة من الاقتصاديين بمعهد بروكنجز بواشنطن في ربيع عام.1988 وكان الحوار بمناسبة صدور كتابه المعنون صعود وسقوط القوي العظمي. وقد أحدث صدور ذلك الكتاب هزة فكرية الأمر الذي أفضي إلي ترجمته إلي ثلاث وعشرين لغة. إلا أن أحد الحاضرين لذلك الحوار قد أبدي دهشته من تلك الهزة الفكرية, إذ إن الكتاب,في رأيه, يتناول قضية تقليدية وهي قضية الأمة- الدولة. وكان الأجدر بالمؤلف أن يتناول قضية أهم وهي قوي الكوكبية المتمثلة في انفجار السكان وانفجار التكنولوجيا وتخريب البيئة والهجرة, وكل هذه القوي تعني أنها مجاوزة للنزعات القومية المنغلقة علي ذاتها والمهددة لحياة البشر أجمعين. وقد أحدث ذلك التعليق هزة في عقل كنيدي, ومن يومها وهو منشغل بتأليف كتاب عن هذه القوي الكوكبية. وقد استعان في تأليفه بكبار المستشارين والنقاد. والغريب في أمر ذلك الكتاب أن كنيدي يهديه إلي فريق رياضي مكون من صبيان عمرهم أقل من خمسة عشر عاما, وكان هو مدربهم. وكان يزهو بأنه كذلك بالرغم من أنه أستاذ أكاديمي, إذ, في رأيه, أن يكون مدربا رياضيا من شأنه أن يمنعه من أن يكون أحادي التفكير. وتأسيسا علي ذلك كله يتساءل كنيدي, في مفتتح كتابه, عن مصير الأمة- الدولة, ويصيغ التساؤل علي النحو الآتي: هل الأمة- الدولة علي استعداد لمواجهة بزوغ قوي الكوكبية في القرن الحادي والعشرين؟ في عام1776 صدر كتاب للعالم الاقتصادي ذائع الصيت آدم سميث عنوانه ثروة الأمم يبين فيه أن للثروة مصدرين هما: العمل والادخار, وأنهما لا ينموان إلا إذا امتنعت الحكومة عن التدخل وتركت الصناعة حرة من غير قيد, أي تركت للمواطنين حرية اتباع الطريق الذي تدل عليه منفعته لهم وذلك في إطار قانون العرض والطلب. وفي القرن التاسع عشر دعت الماركسية إلي تكوين تحالف أممي من العمال. وقيل عن هذه الدعوة, في حينها, أنها تعني تجاوز الأمة- الدولة, وبالتالي فإنها تواكب ليبرالية آدم سميث التي تعني أيضا تجاوز الفرد سلطة الدولة: ومن هنا كانت هاتان الايديولوجيتان- الليبرالية والماركسية- هما بداية التحدي لمفهوم الأمة- الدولة. وفي حالة رفض هذا التحدي فالنتيجة الحتمية نشوء الصراعات المحلية والاقليمية. وكان الفيلسوف الألماني العظيم كانط قد ارتأي أن الطبيعة تستعين بوسيلتين لتمزيق البشر وهما تباين اللغات والأديان, إذ من شأنهما توليد الكراهية المتبادلة واشعال الحروب. ومع ذلك فقد كانت أمنية ذلك الفيلسوف الألماني تكمن في أن تقدم الحضارة كفيل بإحداث السلام بين الأمم والشعوب, إلا أن الأصوليات الدينية, في رأي كنيدي, قد دمرت تلك الأمنية, وهي تحاول الآن منع الدخول إلي القرن الحادي والعشرين. ومن هنا ينتهي كنيدي إلي نتيجة حتمية هي علي النحو الآتي: حيث الأصوليات بوجه عام قوية حيث لا أمل في إصلاح التعليم أو تحرير المرأة, وحيث الأصولية الإسلامية بوجه خاص قوية حيث رعبها من أن يبتلعها الغرب وبالتالي فهي تريد اجتثاثه من الحضارة. وتأسيسا علي ذلك كله ينتهي كنيدي إلي القول بأن ثمة أمرا لازما ومطلوبا وهو إعادة تربية البشرية لمواجهة كوكب الأرض في وضعه القائم المضطرب والممزق, ومن غير ذلك فالكارثة قادمة. الرأي عندي أن ظاهرة الكوكبية تقف بلا سند عند بول كنيدي, ولكنها عندي مكفولة بثلاث ظواهر: الكونية والاعتماد المتبادل والابداع. واذا انضمت إليها الكوكبية تكون لدينا رباعية القرن الحادي والعشرين وهي علي النحو الآتي: الكونية تعني الوعي ب الكون علميا بسبب رؤيتنا للكون من خلال الكون استنادا إلي قدرتنا علي السباحة في الفضاء. والكوكبية لازمة من الكونية فتعني وحدة كوكب الأرض من غير تقسيمات أو فواصل. والاعتماد المتبادل لازم من هذه الوحدة. وهذه الظواهر الثلاث تدخل في تناقض حاد مع الأمة- الدولة كما تدخل في تناقض حاد مع الأصوليات. وليس في الامكان القضاء علي هذا التناقض الحاد إلا بإقصاء مفهوم الأمة- الدولة ومفهوم الأصولية. والفكر غير التقليدي, أي المبدع, هو الكفيل بتحقيق ذلك الاقصاء, بل هو الكفيل بإعادة تربية البشرية. لمزيد من مقالات مراد وهبة