كان عام1986 هو العام الذي واجهت فيه نخبة من الفلاسفة الدوليين مغامرة جنونية هي الأولي من نوعها في تاريخ الحضارة تنتحر فيها البشرية نوويا, وصك الفيلسوف الأمريكي جون سومرفيل(1905-1994) مصطلحا يكشف عن مغزي هذه المغامرة وهو الانتحار البشري نوويا وكان يقصد به قتل بعض البشر لكل البشر, أي أنه قتل يفضي في نهاية المطاف إلي فناء الجنس البشري. والسؤال بعد ذلك: من هو جون سومرفيل؟ هو أستاذ الفلسفة بجامعة كولومبيا, ولكنه أستاذ متجول في أربع عشرة جامعة في كندا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا وأمريكا والاتحاد السوفييتي وذلك في الفترة من الثلاثينيات حتي الثمانينيات من القرن الماضي. وكان في هذه الفترة مدافعا عن الشيوعيين المضطهدين في أمريكا ومؤلفا عن السلام والماركسية والحوار بين فلاسفة سوفييت وأمريكان. من أهم مؤلفاته: الفلسفة السوفييتية(1946) وهو أول كتاب غربي عن هذه الفلسفة مستعينا في ذلك بالمراجع الروسية إذ كان متقنا للغة الروسية. وكذلك فلسفة السلام(1954) وفي مقدمته رسالة من أينشتين. وفي مؤتمر مونتريال الفلسفي العالمي السابع عشر في أغسطس من عام1983 فاتحني سومرفيل في ضرورة عقد مؤتمر دولي فلسفي يضم فلاسفة من المعسكرين الشيوعي والرأسمالي لمواجهة ما أطلق عليه الانتحار البشري نوويا. وقد كان, إذ انعقد في عام1986 في سانت لويس بأمريكا. وكانت الغاية من عقده تحريض القوتين العظميين النوويتين السوفييتية والأمريكية علي تدمير الأسلحة النووية استنادا إلي حوار فلسفي يقوم به الفلاسفة من قبل القوتين العظميين من أجل تغيير الذهنية وتحويلها من ذهنية حرب من أجل الفناء إلي ذهنية سلام من أجل البقاء. وقد فطنت اليونسكو إلي هذا النوع من التغيير, إذ ورد في ميثاقها هذه العبارة حيث إن الحروب تبدأ في عقول البشر فالدفاع عن السلام ينبغي أن يبدأ في عقول البشر, وبالتالي فإننا, في هذا العصر النووي, نحن في حاجة إلي ابتداع أسلوب جديد لمنع الانتحار البشري نوويا وذلك بأن ننزعه من العقول. ومن هنا جاء عنوان بحثي الايديولوجيا والسلام وقد جاء هذا العنوان باقتراح من جون سومرفيل. وفي بداية البحث تساءلت عما هي الايديولوجيا وكان جوابي أنها جملة من القيم والمبادئ التي تحرك البشر, إلا أنها لا تحركهم إلا إذا ارتقت إلي مستوي المطلق. وحيث إن المطلق واحد بطبيعته فاذا تعدد دخلت المطلقات في صراع, أو بالأدق, في حرب. ولهذا فاذا كنا نريد سلاما فما علينا إلا نفي الايديولوجيات. إلا أن هذا النفي لن يكون ممكنا إلا إذا ارتأينا النشاط الإنساني من منظور الوحدة بين الانسان والطبيعة وليس من منظور التناقض بينهما. وفي حالة المنظور الأول يصبح من الممكن اتحاد المجتمع والطبيعة في نسق واحد, ومن ثم يصبح النشاط الإنساني تفاعلا بين الجزء الذي هو المجتمع والكل الذي هو الطبيعة, وبالتالي تصبح الثورة العلمية والتكنولوجية ارهاصا لذلك التفاعل لأنها هي التي تحرر الانسان من قيود المكان وتدفعه إلي السباحة في الفضاء ومن ثم إلي افراز ما يمكن أن يسمي ب الوعي الكوني. وبدون هذا الوعي, في العصر النووي, فموت الانسان ومعه موت الكون أمر محتوم. ومن هذه الزاوية يمكن إحداث تحوير في العبارة الأخيرة الواردة في المنفستو الشيوعي التي تقول: يا عمال العالم اتحدوا فتكون العبارة المحورة هي علي النحو الآتي: يا شعوب العالم اتحدوا مع الكون وليس ضد الكون. وإثر الانتهاء من إلقاء بحثي دار تساؤل عن مدي إمكانية تحقيق ذلك الوعي الكوني. وكان رأيي أن ثمة عائقين أمام ذلك التحقيق. العائق الأول يتمثل في بزوغ ظاهرة جديدة في القرن العشرين وهي ظاهرة الأصوليات الدينية التي تشيع مناخا ثقافيا ضد افراز الوعي الكوني بدعوي أن هذا الوعي شرك بالله, إذ إن الله هو الخالق لهذا الكون وهو الواعي به. أما العائق الثاني فهو مستنبط من العائق الأول وهو أن الغاية التي تنشدها الأصوليات الدينية بوجه عام والأصولية الاسلامية بوجه خاص هي القضاء علي الكتلة الشيوعية بالاستعانة بالكتلة الرأسمالية, ثم بعد ذلك الانفراد بالكتلة الرأسمالية والقضاء عليها بالإرهاب. وقيل حينها ردا علي رؤيتي هذه بأنني متشائم لأن العقلانية السائدة في المسار الحضاري كفيلة بمنع تدمير القوتين العظميين. ومع ذلك ففي عام1991 ماتت الكتلة الشيوعية بمؤازرة الأصولية الاسلامية الأفغانية والباكستانية. وبقي بعد ذلك إماتة الكتلة الرأسمالية, وإماتتها واردة بحكم ضعف الوعي الأمريكي بكيفية التعامل مع الأصولية الاسلامية. ولا أدل علي هذا الضعف من عدم فهم القيادة الأمريكية لمغزي تدمير مركز التجارة العالمي بنيويورك وما لازمه من موت الآلاف في11 سبتمبر2001. ولاأدل علي هذا الضعف أيضا من أنني عندما دعيت للمشاركة في مؤتمر فلسفي انعقد في بوسطن في نهاية عام2001 قال رئيس المؤتمر وهو في الوقت نفسه رئيس قسم الفلسفة والأديان بجامعة بوسطن: نحن نريد أن نفهم. وإذا أردت مزيدا من الفهم فانظر إلي حال السياسة الأمريكية في زمن الاخوان فماذا تري؟ تري سفيرة أمريكا في مصر لديها إدمان في الدفاع عن حكم الإخوان, أو بالأدق عن الحكم الأصولي. لمزيد من مقالات مراد وهبة