إذا أردت أن تفهم معني لفظ دبلوماسية فعليك بقراءة كتاب كيسنجر المعنون الدبلوماسية الصادر في عام1994, أي قبل نهاية القرن العشرين بست سنوات.وإذا أردت أن تفهم دبلوماسية القرن الحادي والعشرين فعليك بقراءة كتابه الصادر بعنوانين علي الغلاف نحو دبلوماسية القرن الحادي والعشرين وهل أمريكا في حاجة إلي سياسة خارجية؟. وأظن أن العلاقة بين العنوانين تشي بأن العنوان الأول إجابة علي العنوان الثاني المصاغ علي هيئة سؤال. واللافت للانتباه, هاهنا, أن هذا الكتاب قد صدر في عام2001 وطبع مرة ثانية في عام2002 مع إضافة فصل جديد بعد الخاتمة عنوانه وماذا بعد ويقصد كيسنجر ماذا بعد أحداث11 سبتمبر أو بالأدق ماذا بعد الارهاب باعتباره تحديا جديدا. ثم يستطرد قائلا: إنه تراجيديا ولكنه أيضا نقطة تحول تلزمنا بتكوين رؤية مستقبلية. والسؤال اذن: هل كيسنجر قادر علي تكوين هذه الرؤية المستقبلية؟ في عام1969 زار موسكو وفد أمريكي مكون من ستة أساتذة من جامعة هارفارد كان من بينهم كيسنجر الذي انفرد بسيارة خاصة بقرار من الحكومة السوفييتية. وعندما سأل أحد أعضاء الوفد عن السبب في ذلك الانفراد قيل إن كيسنجر رجل المستقبل في أمريكا, وقد كان, إذ عين وزيرا للخارجية في22 سبتمبر1973, أي قبل نشوب حرب أكتوبر بأسبوعين. وكان قبل تعيينه وزيرا مديرا لسمينار دولي بجامعة هارفارد من عام1952 حتي عام1969, أي ابتداء من ثورة يوليو.1952 والسؤال بعد ذلك: ماذا كانت رؤية كيسنجر المستقبلية؟ كانت مزدوجة. كانت الرؤية الأولي قبل11 سبتمبر, أي كانت رؤيته في القرن العشرين, وكانت أمريكا تواجه تناقضا حادا بين رؤيتين إحداهما انعزالية حيث تعتزل أمريكا العالم الخارجي وتكتفي بذاتها والأخري تبشيرية تتدخل بسببها في شئون العالم الخارجي وتفرض عليه قيمها في الديمقراطية وحقوق الانسان. وقد تغلبت الثانية علي الأولي في عام1917, أي بعد الثورة الشيوعية في روسيا. ومن هنا ارتأي كيسنجر أن ثمة قانونا طبيعيا في الحضارة الانسانية, وهو أنه في كل قرن ثمة دولة واحدة قادرة علي تشكيل النظام العالمي بما يتفق وقيمها. في القرن السابع عشر كانت فرنسا, إذ دعت إلي تأسيس الأمة- الدولة المحكومة بمصالحها الخاصة دون الالتفات إلي مصالح الدول الأخري. وفي القرن الثامن عشر كانت انجلترا التي شكلت مفهوم توازن القوي الذي هيمن علي الدبلوماسية الأوروبية. وفي القرن التاسع عشر كانت النمسا التي دعت إلي أن تكون أوروبا موحدة. وفي القرن العشرين كانت أمريكا التي حاولت فرض قيمها علي دول كوكب الأرض, الأمر الذي استلزم انتشار الجيش الأمريكي في جميع الدول التي تعاني من توترات داخلية أو توترات مع دول أخري. وقد ترتب علي ذلك, في رأي كيسنجر, تآكل الطبقة الوسطي مع بزوغ أصوليات دينية تتوهم كل منها أنها مالكة للحقيقة المطلقة, وبالتالي يسهم ذلك الوهم في افراز الارهاب. وترتب علي ذلك دخول أمريكا في مأزق وهو أن قيمها لم تعد صالحة للدول التي تستعين بالإرهاب لأنها, في حقيقة أمرها, كارهة للقيم الغربية إلي الحد الذي تدفع فيها مواطنيها إلي تدمير المجتمعات الغربية انتحاريا بالسيارات والطائرات المفخخة. والسؤال عندئذ: ما الدبلوماسية الجديدة, في رأي كيسنجر, في مواجهة تحدي الارهاب؟ جوابه وارد في ضرورة تأسيس ما يطلق عليه مصطلح دبلوماسية الاتحاد أي الاتحاد بين أمريكا وأوروبا ولكن بشرط أن تكون هذه الدبلوماسية هي الخطوة الأولي في مواجهة تحدي الارهاب. أما الخطوة الثانية فتكمن في توسيع دائرة التحالف بحيث تندمج فيها دول أخري, وقد كان, إذ انضمت اليابان وكوريا الجنوبية, ثم الهند المهددة من الأصولية الاسلامية, ثم روسيا فالصين لأن كلا منهما مهدد أيضا بنفس الأصولية. أما في العالم العربي فقد انحازت إلي ذلك التحالف كل من مصر والمملكة العربية السعودية. ومع ذلك فإن كيسنجر ارتأي بأن ثمة ارتباكا حدث لذلك التحالف وهو الصراع العربي الإسرائيلي الذي يكاد كيسنجر أن يحصره في إشكالية المقدس. وسبب هذه الاشكالية أو هذا التناقض مردود إلي أن الأرض مقدسة عند كل من الطرفين. والرأي عندي أن المقدس ليس محصورا في الأرض علي نحو ما يحددها كل من الطرفين العربي والإسرائيلي, إذ هو ممتد في رؤية الأصولية الاسلامية, إلي الحياة الدنيا علي كوكب الأرض وبلا استثناء بحيث يكون هذا الكوكب مقدسا في نهاية المطاف وذلك عندما تتحقق الخلافة الاسلامية الكوكبية. إلا أن هذا الكوكب لن يكون مقدسا إلا إذا أصبح العقل الإنساني مقدسا, وهو لن يكون كذلك إلا بإبطال إعماله, وهو لن يبطل إلا بالأصولية التي تلتزم الظاهر دون الباطن, أي تلتزم الحس دون العقل. لمزيد من مقالات مراد وهبة