تعرف على برنامج احتفالية عيد العمال بحضور السيسي    عيار 21 الآن بيعًا وشراء.. سعر الذهب اليوم الخميس 2 مايو 2024 في أولى التعاملات    السكة الحديد تعلن تأخيرات القطارات المتوقعة اليوم الخميس    تراجع معدل التضخم في كوريا الجنوبية لأقل من 3% لأول مرة منذ 3 أشهر خلال أبريل الماضي    الإسكان: جار تنفيذ 64 برجا سكنيا بها 3068 وحدة.. و310 فيلات بتجمع صوارى في غرب كارفور بالإسكندرية    الطلاب يتظاهرون بالجامعات البريطانية احتجاجا على الحرب في غزة    هيئة البث الإسرائيلية: تشاؤم في إسرائيل بشأن إمكانية التوصل إلى اتفاق لإطلاق سراح الرهائن    الدفاع الروسية تعلن إحباط هجوم جوي أوكراني وتدمير 12 طائرة مسيرة كانت تستهدف مناطق في العمق الروسي    ميدو يصدم قائد الأهلي ويطالب بتسويقه    فيديو.. الأرصاد: أجواء مستقرة بشكل كبير حتى الثلاثاء المقبل    مصرع طالب صدمته سيارة مسرعه أثناء عودته من الامتحان ببورسعيد    فصل رأسها عن جسمها.. حبس المتهم بذبح ابنته وتقطيع جسدها لأشلاء في بولاق الدكرور    أبطال فيلم السرب وأسرهم يحتفلون بنجاحه في أول أيام عرضه (صور)    سفير روسيا لدى واشنطن: اتهامات أمريكا لروسيا باستخدام أسلحة كيميائية في أوكرانيا بغيضة    ماذا يستفيد جيبك ومستوى معيشتك من مبادرة «ابدأ»؟ توطين الصناعات وتخفيض فاتورة الاستيراد بالعملة الصعبة 50% وفرص عمل لملايين    "الحرب النووية" سيناريو الدمار الشامل في 72 دقيقة    ملخص عمليات حزب الله ضد الجيش الإسرائيلي يوم الأربعاء    حملة علاج الادمان: 20 الف تقدموا للعلاج بعد الاعلان    بحضور السيسي، تعرف على مكان احتفالية عيد العمال اليوم    نسخة واقعية من منزل فيلم الأنيميشن UP متاحًا للإيجار (صور)    هل يستجيب الله دعاء العاصي؟ أمين الإفتاء يجيب    مشروع انتاج خبز أبيض صحي بتمويل حكومي بريطاني    تعرف على أحداث الحلقتين الرابعة والخامسة من «البيت بيتي 2»    الصحة: لم نرصد أي إصابة بجلطات من 14 مليون جرعة للقاح أسترازينيكا في مصر    الصحة: مصر أول دولة في العالم تقضي على فيروس سي.. ونفذنا 1024 مشروعا منذ 2014    بتهمة التحريض على الفسق والفجور.. القبض على الإعلامية "حليمة بولند" في الكويت    تشيلسي وتوتنهام اليوم فى مباراة من العيار الثقيل بالدوري الإنجليزي.. الموعد والتشكيل المتوقع    خبير تحكيمي يكشف مدى صحة ركلة جزاء الإسماعيلي أمام الأهلي    الثاني خلال ساعات، زلزال جديد يضرب سعر الذهب بعد تثبيت المركزي الأمريكي للفائدة    متى تصبح العمليات العسكرية جرائم حرب؟.. خبير قانوني يجيب    بتهمة التحريض على الفسق والفجور.. القبض على حليمة بولند وترحيلها للسجن    «البنتاجون»: أوستن أكد لنظيره الإسرائيلي ضرورة ضمان تدفق المساعدات إلى غزة    أمطار تاريخية وسيول تضرب القصيم والأرصاد السعودية تحذر (فيديو)    تامر حسني يوجه رسالة لبسمة بوسيل بعد الإعلان عن اغنيتها الجديدة.. ماذا قال؟    كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي في الموارد البشرية؟    هاجر الشرنوبي تُحيي ذكرى ميلاد والدها وتوجه له رسالة مؤثرة.. ماذا قالت؟    عميد أصول الدين: المؤمن لا يكون عاطلا عن العمل    لاعب الزمالك السابق: إمام عاشور يشبه حازم إمام ويستطيع أن يصبح الأفضل في إفريقيا    وليد صلاح الدين يرشح لاعبًا مفاجأة ل الأهلي    عاطل ينهي حياته شنقًا لمروره بأزمة نفسية في المنيرة الغربية    هذه وصفات طريقة عمل كيكة البراوني    أهمية ممارسة الرياضة في فصل الصيف وخلال الأجواء الحارة    حكم دفع الزكاة لشراء أدوية للمرضى الفقراء    مظهر شاهين: تقبيل حسام موافي يد "أبوالعنين" لا يتعارض مع الشرع    كوكولا مصر ترفع أسعار شويبس في الأسواق، قائمة بالأسعار الجديدة وموعد التطبيق    بسام الشماع: لا توجد لعنة للفراعنة ولا قوى خارقة تحمي المقابر الفرعونية    الأنبا باخوم يترأس صلاة ليلة خميس العهد من البصخة المقدسه بالعبور    برج الميزان .. حظك اليوم الخميس 2 مايو 2024 : تجاهل السلبيات    النصر يطيح بالخليج من نصف نهائي كأس الملك بالسعودية    الخطيب يطالب خالد بيبو بتغليظ عقوبة افشة .. فماذا حدث ؟    يوسف الحسيني : الرئيس السيسي وضع سيناء على خريطة التنمية    أخبار التوك شو|"القبائل العربية" يختار السيسي رئيسًا فخريًا للاتحاد.. مصطفى بكري للرئيس السيسي: دمت لنا قائدا جسورا مدافعا عن الوطن والأمة    بعد أيام قليلة.. موعد إجازة شم النسيم لعام 2024 وأصل الاحتفال به    مفاجأة للموظفين.. عدد أيام إجازة شم النسيم في مصر بعد قرار ترحيل موعد عيد العمال    بقرار جمهوري.. تعيين الدكتورة نجلاء الأشرف عميدا لكلية التربية النوعية    النيابة تستعجل تحريات واقعة إشعال شخص النيران بنفسه بسبب الميراث في الإسكندرية    أكاديمية الأزهر وكلية الدعوة بالقاهرة تخرجان دفعة جديدة من دورة "إعداد الداعية المعاصر"    بروسيا دورتموند يقتنص فوزا صعبا أمام باريس سان جيرمان في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحاكمُ الحَكَمُ الحكيمُ
نشر في الأهرام اليومي يوم 22 - 03 - 2014

للاحترام عنوان اسمه عدلى منصور.. الحاكم الحكم الحكيم الهادئ الخطيب البليغ المعبر عن روح القانون، من ليس شتاماً ولا لعاناً فى زمن أصبح التطاول فيه منهجاً ومذهباً ومناخاً..
من أعاد لنا فى شهور معدودات ثقة افتقدناها سنوات وسنوات فى أصحاب المقامات... فى ليلة الأمس افترشت الابتسامة وجه الرئيس عدلى منصور تزيح ما قبلها من ملامح المعاناة والصبر على مكاره الكرسى حتى مشارف الدموع، ليأخذ بعدها الوجه السمح الطيب انطباع الشجى والشجن، التعبير الحقيقى لمشاعر القاضى الإنسان عندما يأتى ذكر الفن الذى أعاد تكريمه على أرض مصر بعد 33 سنة قحط على لسان المذيعة القديرة اليقظة لميس الحديدى خلال لقائها الشامل الحميم الذى ناداها فيه رئيس الجمهورية أكثر من مرة باسمها تسبقه الأستذة، أو مجرداً تحيطه الألفة ويحفه الجو الأسرى حتى ظننا للحظة رغم حسن إنصاته الذى يطول أنه سيطلب منها أخيراً أن تصنع له فنجان قهوة ب«وش» بن محروق بشعرة سكر أو على الريحة رغم أنى يا أستاذة لميس أظل مؤرقا لا أنام أكثر من ثلاث ساعات أو أنه سيرجوها أن ترفع له مسند ظهره شوية لفوق، أو أنها لو سمحت تطلب منهم بعد إذنهم يخفضوا ولو قليلا من ضوء النجفة البعيدة لأنه ضارب شوية جوه العين.. أو يستأذنها فى أن تصحب أحفاده إليه فى الغد ليأخذهم فى أحضان الجد بعدما لم يعد يراهم ويُمتع العين بأنسهم بحكم مهام منصبه إلا دقائق من كل أسبوع، وكله يهون يا أستاذة لميس فى سبيل استكمال خارطة الطريق وكى لا تقع مصر لا سمح الله فى حرب أهلية.. وتسأل الأستاذة براحتها، ويجيب الرئيس بسماحة الكبير الجليل، ويطول السؤال والجواب حتى ظننا أن يأخذهما الحديث الطلى ليتمشيا معا فى القاعة البراح ليشير لها عن قرب إلى موضع علم مصر الخديوية فى أركان سجادة جدها توفيق باشا المصنوعة بالصعيد العائدة لحائط صالون الرئاسة بعدما أخفاها مرسى لغرض فى نفس يعقوب، حيث تقع حلايب وشلاتين داخل الحدود.. و..سألته لميس عن السينما فأفاض الرئيس وغاض حول الزمن الجميل وأفلام الأبيض والأسود ولقطات لا تمحى من الذاكرة وإن كانت مهام الاتحادية الجسام تسافر بها فى الوقت الحالى بعيداً خارج المشهد.. و..هانت يا ريس فاتت الشهور وما بقى إلا الأيام للعودة من كرسى الرئاسة لكرسى القضاء.. و..فاكر يا ريس..
فاكر رهبة إطلالة جمل الخال القادم لثأر الشرف فى دعاء الكروان.. فاكر انقسام الشاشة فى مناظرة فيلم صلاح الدين "أحمد مظهر" مع ريتشارد قلب الأسد "حمدى غيث".. فاكر أظافر محمود المليجى الدامية المتشبثة بالأرض.. فاكر نجمة إبراهيم تهزأ لمحاولة الفلاحين إصلاح الأرض المغتصبة عن بُعد "ده دود يا وله".. فاكر كمال الشناوى فى شخصية يوسف الرجل الذى فقد ظله.. فاكر القس الورع الطاهر الحبيب يحيى شاهين فى غناء سلاّمة.. فاكر يا صفايح السمن السايحة وفدادين الزبدة النايحة لنورماندى تو "عبدالفتاح القصرى".. فاكر منديل سعاد حسنى تلوح به من شباك سجن النساء.. فاكر الباشا والد إنجى المذعور من غضبة العبيد القادمة فى "رد قلبى".. فاكر شادية تفجر ماء الهويس ليروى الأرض الشرقانة فى شىء من الخوف.. فاكر جواز فؤادة من عتريس باطل باطل.. فاكر الليلة يا عمدة لصلاح منصور.. فاكر الأب عبدالقدوس يجيب على الابنة المتمردة لبنى عبدالعزيز: تشتغلى ما تشتغليش إنت حرّة.. فاكر استيفان روستى: دى اللى كنت عاوزة تهزئيها ده مفيش حد ماأُعجبشى بيها.. فاكر "لعبة" سامية جمال تمسح البلاط فى أحمر شفايف.. فاكر الحذاء الضيق فى قدم المهراجا المزيف نجيب الريحانى.. فاكر الربيع لفريد من بعد ما جاء الشتاء بطول لياليه، والمروحة البيضاء تأتى بالنسيم العليل لأسمهان تغنى أوبريت ليالى الأنس.. فاكر صخرة ليلى مراد.. فاكر "طظ" لحمدى أحمد فى القاهرة 30.. فاكر نداء آمااااال على أحم م مد من بعيد.. فاكر يا ريس.. أنا فاكرة.. كان الزمن جميلا خالياً من السوس والنشطاء وحقوق الإنسان وإضراب الأطباء وانقطاع الكهرباء وسد النهضة وأعلام القاعدة وإخوان الشياطين..
خالد محمد خالد
فتح الشيخ حسين اللفافة ووضعها جانبا ومن بعد الغداء جاء موعد تسميع القرآن فانبرى شقيقه طفل الثامنة يتلو ما حفظه من السور بينما الشيخ مشغول بتفريغ اللفافة من محتواها الجهنمي، فإذا بها كرباج له خاصية متفردة، فالعادة أن يصنع من التيل المجدول أو الجلد وأن يكون طويلا بنهايات متحررة حتى يكون نصفه للضرب الجاد والنصف الآخر فرقعة تهويش، أما كرباج حسين فقد صنعه له خبير محترف فى فنون التعذيب، فهو من سلك الكهرباء المكثف والمجدول والقصير الذى لا تعنيه فرقعات الهواء، فالمبتغى منه إنزال العقاب الجاد، وهذه النوعية اللاإنسانية يطلق عليها فى الريف اسم «الزخمة» وما أدراك ما الزخمة فوق أجساد العصافير!! و.. رغم وصية الأب بألا يضرب الصغير إلا فى حالات الضرورة القصوى وبخاصة فى الليل قبيل النوم، فإن الشيخ حسين كان فى منهجه التعليمى يقوم بالضرب فى آناء الليل وأطراف النهار وجميع الليالى والصباحيات.. جميعها.. كلها.. مواقيت للحفظ يستوى فى ذلك قبل النوم وبعد النوم وأثناء النوم..
وبتلك الطريقة أتم خالد محمد خالد حفظ القرآن فى الزمن الذى قدره الشيخ حسين.. خمسة أشهر.. ليتسلمه من بعدها الشيخ محمد ليعلمه التجويد وأحكامه من غن ومد وإدغام وإشباع الخ.. وتبقى الزخمة فى يد الكبير لا للتسميع فقد تم الحفظ، وانما للتهذيب والإصلاح الدورى حتى من بعد الانتقال إثر تصدع البيت للسكن فى رواق الشراقوة فى مسجد الأزهر.. وتتردد صرخات الطفل تحت وطأة الضرب المبرح فإذا ما احتج إخوان الرواق على هذا الإيذاء يسحبه الأخ إلى جنبات الجامع الفسيح ليتخير مكانا قصيا يستطيع فيه أن يتجول بزخمته بعيدا عن تدخل الفضوليين واسترحامهم.. وينجح خالد فى امتحان القبول فى معهد القاهرة الأزهرى ليأخذ مكانه بين طلبة السنة الأولى الابتدائية، ويرفع الشيخ حسين الزخمة إلى فمه يشبعها لثما وتقبيلا ومناجاة: لولاكي.. لولاكي.. لولاكى ما حفظ!! فهل تبقى المعرفة بهذه الوسيلة طويلا؟!.. إن الحكمة الموجزة تقول من جد وجد بينما كانت مدرسة الشيخ حسين وأمثاله تضيف ومن جلد اجتهد!!
وحتما كانت نوايا الشيخ حسين طيبة يتعامل ويتناجى بها مع الجنة مباشرة بعدما سمع عن الرسول الكريم أن من أحفظ مسلما آية من القرآن، أو علمه مسألة من العلم دعاه الله جل جلاله أن يختار من غرف الجنة أحسنها وأبهاها.. ويسأل المفكر الإسلامى الكبير خالد محمد خالد عن مصير علوم الأزهر التى بدأ معها بداية سيئة قال: إن الذى معى منها هو ما قرأته ودرسته وحصلته فيما بعد عن طريق القراءة الحرة، أما ما أثقل ذاكرتى بمحفوظات فى الفقه والنحو والتوحيد وبقية العلوم فكانت المحفوظات السريعة التى غدت منسيات سريعة.. وعندما أتيح لصاحب الخمسين كتابا وهو فى الرابعة عشرة أن يدخر خمسة قروش من مصروفه الضعيف مضى يحمله ممتلئا مختالا بثروته يجوس بين مكتبات ميدان الأزهر ليختار بغيته التى لم تكن كتابا أدبيا فى النثر أو الشعر، أو كتابا دينيا، أو فى علم البلاغة أو اللغة، فقد عرض عنها جميعا ليحتضن كتابا مترجما عنوانه «مذكرات لورد جريبي» وزير خارجية بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولي.. كتاب أبعد ما يكون عن ثقافته واستعداده بعد أن تحررت ذاكرته من الحصار الذى كان مضروبا عليها، كما تحررت من عبودية الحفظ وتفتحت نوافذها لتهب عليها الرياح من الجهات الأربع..
الطفل الأزهرى الذى ارتدى الكاكولة والعمة وطوله نصف متر وهو لم يبلغ التاسعة، ذهب العيال وكأنهم يرون فيه إحدى عجائب الدنيا يصيحون به: شد العمة شد تحت العمة قرد.. فى اليوم التالى كان يخلع عمامته ليخفيها داخل حقيبة كتبه الصغيرة ليلتقط منها الطاقية لتكون بدل فاقد، وعلى ناصية مسجد الأقمر بالجمالية ما بين بيت القاضى وباب الفتوح كان يعيد كل شيء إلى مكانه، الطاقية إلى الحقيبة والعمامة إلى الرأس.. الأزهرى من بعد التحاقه بوظيفة التدريس وحصوله على شهادة العالمية من كلية الشريعة عام1947 ليعين مدرسا حتى عام1956 قام بتوديع العمامة والكاكولة مقبلا على الجاكتة والبنطلون بدافع أن الوظيفة المدنية بداية المطاف ونهايته فلابد وأن يلبس لها زيها المألوف.. وحاول الوالد زجره، ومن بعدها إقناعه:
- طاوعنى وانت حتبقى شيخ الأزهر..
- وما يدريك أننى أريد أن أكون شيخا للأزهر؟
- أمال عاوز تبقى إيه؟
- عاوز أكون خالد محمد خالد.
- وهل هناك فارق فى أن تكون شيخا للأزهر، وخالد محمد خالد؟
- الفارق كبير جدا، ومعرفتى بنفسى تخبرنى بأننى أفقد ذاتى فى أى منصب كبير أتولاه..
خالد الذى راح يقرأ ويقرأ ليجذبه الفكر الأوروبى ويعترف بأنه فى طريقه إلى البحث عن الحقيقة منح عقله ما يسمى كارت بلانش أى حرية التصرف والاختيار، ويذكر فى أحد أوقات عناده وتمرده: أن قلت لنفسى وكأننى أخاطب شخصا أمامي: «اذهب وابحث كما تشاء عما تشاء.. ثم عد إلى متوشحا بالإيمان.. أو مغرقا فى الإلحاد.. أو بين هذا وذاك».. و.. عاد إليه العقل وهو يحمل للدين الخالص ولاء موضوعيا.. لا ولاء تقليديا.. ولاء الريادة والاقتناع، لا ولاء التبعية والاتباع..
ويسأل خالد محمد خالد نفسه قبل أن ننحو نحن باللوم عليه: «كيف توفق بين إيمانك بالديمقراطية وبين رثائك الطاغية ستالين يوم مات بمقالة جعلت عنوانها: طبت حيا وميتا يا رفيق؟؟!!».. ويجيب على نفسه معترفا بخطئه فى اختياره العنوان: حتى لو لم يكن ستالين طاغية فتلك التحية المودعة قالها سيدنا أبوبكر الصديق رضى الله عنه حين سعى إلى جثمان الرسول صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه الشريف وقالها: طبت حيا وميتا يا رسول الله، وما كان ينبغى لى أن أودع بها ستالين أو غيره من الناس واللهم غفرا.. ويمضى خالد فى ندمه مسترسلا بأنه حين رثى ستالين لم تكن رائحة طغيانه قد فاحت بعد وكنا نحمد له مناصرته لنا ضد من يستعمروننا، فقد ناصرنا أيام المؤامرة ضد فلسطين والعرب عندما أرسل مع مندوبه فى مجلس الأمن نصيحة للنقراشى فى أن يقبل مشروع التقسيم قبل أن ينجز الغرب مؤامرته الكبرى لتمكين إسرائيل من فلسطين كلها، ووقف مع النحاس عندما ألغى معاهدة36 معلنا مشروعية هذا الإلغاء معترفا بحقنا فيه، وكلف وزير خارجيته بتبليغ النحاس بأن بلاده على استعداد بمد مصر بالسلاح عندما بدأت المقاومة ضد الإنجليز.. وعندما وقف خروشوف يحكى الكثير من مخازى ستالين ودكتاتوريته سحبت السجادة التى كنت قد فرشتها له وانحنيت عليه باللوم.
خالد السابح ضد التيار الذى تلفع بشجاعته وحدها ووقف يحاور عبدالناصر وهو فى عنفوان مجده وذروة قوته ثلاث ساعات فى حوار مشهور عام62 كان مسرحه اجتماع اللجنة التحضيرية لمؤتمر قوى الشعب، أما موضوعه فكان العزل السياسى الذى ارتأى عبدالناصر وقتها أن يطبقه على من رأى أنهم يقفون بأفكارهم وبمصالحهم الخاصة وبارتباطاتهم الأسرية والحزبية ضد ثورة يوليو وأحلامها، وكان خالد على عكس ناصر... ويروى الابن أسامة خالد عن والده فيقول: لقد عانى أبى مدة طويلة من الاكتئاب وتوقف عن الكتابة ما يقرب من عشر سنوات بعد أن بدأت بوادر المرض تزحف إليه فى أعقاب موقفه مع عبدالناصر، فقد كان يتصور أنه كان بإمكانه أن يؤثر عليه ويقنعه بالديمقراطية كما أقنعه فى مجالات أخرى وأثر عليه بشأن تحرر الفلاح والمساواة الاجتماعية التى طالب بها فى «مواطنون لا رعايا» الكتاب الذى اشترى منه عبدالناصر نسخا كثيرة من جيبه الخاص وقام بتوزيعها بنفسه على زملائه مبديا إعجابه بالكتاب وصاحبه ذهب أبى ليقول كلمته فلم يجد أحدا من أصدقائه بجانبه ولو كان عبدالناصر قد أودعه السجن لكان أرحم من العزلة بين الناس..
خالد النادر فى الاعتدال ومراجعة الذات.. من كانت لديه لباقة الاختلاف مع الاحترام وهو الفارق بين المثقف النزيه الذى يرد بوجهة نظر أخري، والسفيه الذى يقوم بالتجريح.. وما كان أجمل من اختلاف فى الرأى عندما قال خالد محمد خالد «من هنا نبدأ» فرد عليه الشيخ الغزالى «من هنا نعلم» ولم يفسد الاختلاف للود بينهما قضية بل ظلت الصداقة بينهما وطيدة.. وكان قد مضى على صدور الكتاب المثير من هنا نبدأ ثلاثون عاما عندما كتب خالد عن موقفه من الإخوان فى مذكراته بعنوان «قصتى مع الحياة» يقول: «كان لدى شعور غامض بالحذر، ولعل هذا الشعور هو الذى حدد علاقتى بالإخوان، فكنت مجرد زائر للدار ومستمع للأستاذ البنا، دون أن أرتبط بعضوية أو أى التزام خاصة وقد أسرف التنظيم السرى للإخوان فى قتل الذين يخاصمون دعوته أو يحاولون تعويق سيرها.. أسرف إسرافاً كان السبب الأوحد فى تدمير الإخوان من الداخل والخارج، وكانت أولى جرائمه اغتيال أحمد ماهر باشا رئيس الوزراء فى الممشى الواقع بين مجلس النواب ومجلس الشيوخ، حيث انتظره أربعة من التنظيم ليتقدم أحدهم متظاهرا بمصافحته، فلما بسط أحمد ماهر إليه يمينه فاجأه برصاصات استقرت فى قلبه، وهرب الثلاثة، وقبض على القاتل محمود العيسوى محام تحت التمرين، ومن أنصار اللجنة العليا للحزب الوطنى حيث برع تنظيم الإخوان فى التنكر بزرع بعض أعضائه فى الأحزاب والوزارات الخلايا النائمة لحين اختيار أحدهم للقيام بإحدى مهام الاغتيال فلا يبدو أمام القانون ولا الرأى العام من الإخوان.. وأمام جريمة اغتيال المستشار الخازندار لم يستطع التنظيم التنصل أو الإنكار.. وتوالت عمليات النسف والترويع.. فى دور السينما، وأمام أقسام البوليس والشركات والبيوت، وعلى رأسها شركة الإعلانات الشرقية وألقى أعضاء التنظيم قنبلة حارقة من فوق سطح مبنى كلية طب قصر العينى لتقتل اللواء سليم زكى حكمدار العاصمة.. ورأى النقراشى باشا أن مسئوليته كرئيس للوزراء ووزير للداخلية تدعوه إلى التصدى لإرهاب الإخوان فأصدر فى ديسمبر 1948 قرارا بحل الجماعة ومصادرة أملاكها وأموالها، وعبثاً حاول أصدقاؤه صرفه عن القرار حتى أن أحدهم قال له: «هل تعلم أنك بقرارك هذا تُوقِّع نبأ نَعيْك".. فأجابه: "أعلم ولكنى لا أستطيع أن أكون جبانا أو خائنا فى التخلى عن مسئوليتى".. ويضبط البوليس مصادفة سيارة "جيب" بها أسماء أفراد التنظيم، وكم هائل من الأسلحة والقنابل والمسدسات والمواد الناسفة، ويتمادى التنظيم فى غيه فيضع فى محكمة الاستئناف بباب الخلق حقيبة مملوءة بالمتفجرات كى تدمر مضبوطات السيارة الجيب مما كان سيقتل أبرياء كثيرين ويهدم بيوتا فوق رءوس الذين يقطنونها من نساء وأطفال.. ولكن ماذا يعنى التنظيم وماذا يعيره إذا دفع هؤلاء حياتهم ثمناً لنجاته هو من العقاب، ولولا لطف الله لما عثر على المواد الناسفة قبل انفجارها.. ويرتدى عبدالمجيد أحمد حسن الطالب بالطب البيطرى وعضو التنظيم زى ضابط وبعد تدريبه لبضعة أيام يلتقى النقراشى فى طريقه إلى مصعد وزارة الداخلية ليطلق عليه وابلا من الرصاص أودى بحياته فى الحال.. ومن سخريات القدر أن النقراشى كان قد شطب بخط يده اسم عبدالمجيد من كشوف الطلبة المطلوب اعتقالهم ووضعهم خلف الجدران حتى لا يتسبب السجن فى تدمير مستقبل شاب على أبواب الحياة، وكان والد عبدالمجيد موظفاً بأرشيف الداخلية وعندما توفى قرر النقراشى تعليم ابنه عبدالمجيد بالمجان!
ويسأل خالد محمد خالد نفسه: إلى أى مدى أفرخ مناخ التعصب عنفاً وتطرفاً إلى حد استباحة الدماء كشعيرة وفريضة حتى انقلبت فيه الجماعة على نفسها.. فيكتب فى مذكراته: عندما اشتد الخلاف بين المرشد الهضيبى وعبدالرحمن السندى المسئول عن التنظيم السرى للإخوان انحاز المهندس سيد فايز إلى جانب المرشد مما أوغر صدر السندى عليه فانتظر إلى يوم مولد الرسول ليرسل مبعوثه إلى منزل فايز ليقرع الباب فيُفتح له فيسأل: الأخ سيد هنا وخذوا بالكم من كلمة الأخ فى هذا المقام ويجيبوه أنه لم يعد بعد.. طيب كل سنة وأنتم بخير وهذه حلاوة المولد ولما يرجع بالسلامة سلموا لى عليه! وعاد سيد فايز.. ليفتح علبة الحلوى.. حلوى مولد الرسول فى يوم عيد الرسول فانفجرت وأحالته جُذَاذًا.. وقتلت من قتلت، وكان أبأس الضحايا طفلة صغيرة نضيرة لم تكن من أسرته.. ولكن من جيرته.. دفعت حياتها ثمنا لهذا الجوار الذى لم تستشر فيه.. وها هم المتطرفون من الإخوان يزعمون إحياء الجهاد باعتباره "الفريضة الغائبة".. يستبيحون دم بعضهم البعض رغم أن القتل والتخريب والإفساد والترويع كلها موضع مقت الله ومقت رسوله.. وكلها وباء يرفع الله يده عن ذويه وحامليه، فلا يبالى فى أى واد هلكوا".
حتى النهاية يصعد خالد محمد خالد وهو فى السادسة والسبعين على درجات السلم الحلزونى الضيق لشقته المتواضعة فهو العفيف الذى دافع عن الكويت عند غزوها فاتته حقيبة المكافأة فرفضها فى كبرياء أهل العلم، لتشتد به آلام الكبد ولا يجد الأطباء منفذا سوى اللجوء إلى زراعة كبد جديد.. ويطير الخبر لولى عهد المملكة السعودية وقتها الأمير عبدالله بن عبدالعزيز فيصدر قراره بعلاجه على نفقة الدولة.. لكن.. رئيس الوزراء المصرى وقتها الدكتور كمال الجنزورى كان قد قرر علاج ابن مصر على نفقة مصر سواء فى الخارج أو الداخل.. ولم تحتمل حالة الفارس الكبير لا المجازفة بالسفر ولا إجراء العملية فى الولايات المتحدة، فينتقل ليستقر به المقام يواصل علاجا يواكب تطورات المرض العضال فى مستشفى المقاولين العرب بالقاهرة.. ويذهب البابا شنودة ليعوده قبل وفاته بأيام فيدور بينهما الحديث عن صفاء النفس التى عبر عنها البابا بقوله: «أحب حياة الخلوة والوحدة مع الله أكثر من الجولان فى الأرض، ففى الخلوة تصفو نفس الإنسان ويصفو فكره ويستطيع أن ينتج، وأنا فى اعتقادى أن تعب الإنسان يأتيه من داخله وليس من الظروف الخارجية»... ويرد خالد محمد خالد: «هذا يعنى أن الإنسان مشكلته نفسه، وهذه المشكلة قام بحلها الإمام الشافعى رضى الله عنه ببساطة وذكاء فى قوله: أتعب ليه؟ وأشقى ليه؟ أنا إن عشت فلست أعدم قوتا، وإذا مت لست أعدم قبرا، فعلام إذا أذل للناس نفسي، وعلام أخاف زيدا وعمرا، همتى همة الرجال، ونفسى نفس حر ترى فى المذلة كفرا، وهذه المبادئ الثلاثة تخلق أروع وأصدق صيغ الحياة.. ليس أجمل ولا أرغد ولا أفضل من الخلوة مع الله، وقد كان فى زمان لنا صديق شاب يدعى سعيد وهو شقيق عبدالقوى باشا وزير الأشغال فى وزارة على ماهر، وكان قد ذهب إلى السودان وحصل على الجنسية المزدوجة، وأخبرنى بقصة لم يقلها لأحد سواي، فلقد دخل خلوة بأمر شيخ وكان يذكر الله ويسبح ويصلي، وأقسم لى أنه فى بعض الأيام كان يسمع الحصى تسبح بحمد الله بصوت وحروف وكلمات، وهذه نعمة الله على كل قارع لبابه سواء أكان مسلما أم يهوديا أم نصرانيا، فالله رب العالمين وربنا مش بتاع أقليات»... ويرد البابا شنودة: «نحن نؤمن بأن الطبيعة كلها تسبح لله، وفى المزامير يقال السماوات تتحدث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه.. ولكن طريقة التسبيح تختلف من كائن لآخر، فطريقة تسبيح الطبيعة تعطى فكرة عن قدرة الخالق وعظمته، وأذكر فى مرة عشت فيها فى مغارة بالجبل فأحسست بجمال الليل وهدوئه فقلت:
هدوء الليل موسيقى وأنغامه تداعبني
وصوت الريح فى رفق يصب اللحن فى أذني
ويعقب خالد محمد خالد: «وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم» صدق الله العظيم.
ولا تجف ينابيع الأفكار حتى ساعاته الأخيرة: «أنا اجتهدت وأصبت وأخطأت.. الإنسان مأساة عظيمة.. لقد كنت فقيرا وراتبى لا يكفينى وأعول ثلاثة أطفال وأعاون إخوتى ولكنى عندما كنت أمسك بالقلم كنت أشعر بأننى ملك لأننى جزء من حضور شعبي.. إذا قلنا إن أى كاتب ليس بيده أن يحرك طوبة واحدة فى البناء فهو اليأس فى أشد درجاته كأن أذهب إلى الطبيب فأجده مريضا.. قل كلمتك لكن لا تفرض كلمتك.. اقرأ قراءة الأحرار لا قراءة العبيد.. أقرأ لتكتشف نفسك لا أن تفقد نفسك.. يقول الرسول الكريم: "لا ينبغى للمؤمن أن يذلّ نفسه.. قيل: وكيف يذل المؤمن نفسه يا رسول الله؟.. قال: «يعرضها لما لا تطيق من البلاء».. الإيمان بالله ملاذ ولا أقول عزاء..
عيد الأم
أنا أمى حرائر.
- كل سنة وست الحبايب مُضرِّبة
عليها لفّة قنبلة!
- تسلم إيدين اللى نسف واللى قتل واللى خلع مفصلات القطار، واللى فخخ العربية، واللى يَتِم العيال، واللى زرع فى كل بيت أرملة، واللى طلّع فى الربيع جنازات جثامين البيادة، واللى سحل الجدع ومثِّل به وهو شهيد بين يدى الله، واللي هرب بطرحة حريم وعمل في الجزيرة راجل، واللى قفل شارع فى وجه السائرين فى غيّهم، واللى أقنع الصغار إن أبطال الوطن خانوه، واللى حرق جامعات الانقلاب، واللى تحرش بواحدة خالعة النقاب، واللى كتب بقلم الخيانة مقال خيانة فى جريدة تمويلها خيانة، واللى شال على قلبه يا ولداه فنطاس بودرة ال"تى إن تى" واللى رص بمفهومية مسامير المولوتوف.. واللى لفت أمه القنبلة!
مايفرقشى!
تعالى يا واد نلعب عسكر وإخوان.
- اسمها عسكر وحرامية!!
مايفرقشى
- طيب واللى يصفّى التانى؟!
حاشتكيه لربنا
وأنا حاشتكى لحقوق الإنسان!!
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.