نعرف جميعا حجم الحماس الذى يملأ نفوس السادة الوزراء الجدد، ونشكرهم عليه، ونثمن جدا إعلان معالى رئيس مجلس الوزراء المهندس محلب أن وزارته هى «وزارة حرب». وندرك تماما أن كثيرا من التصريحات التى صدرت عن أعضاء الحكومة الجديدة تميزت بقدر لا بأس به من المجاز البلاغي، والتشبيهات الأدبية، وتضخيم الألفاظ، بغرض المزيد من التأثير، وسعيا لضخ الهمة والنشاط والحيوية فى الجماهير المتعطشة لأى إنجاز على الأرض، وكذلك لدى الموظفين العاملين فى الوزارات والإدارات الحكومية المختلفة، لتحقيق أهداف برنامج عمل الحكومة. ومن هذا المنطلق، ربما يكون مفهوما أن يبدأ عمل الوزراء فى الساعة الثامنة والنصف صباحا، أو تأكيد كل واحد منهم أنه سيواصل الليل بالنهار، بلا كلل ولا ملل، لكن أن يبلغ الحماس درجة التهديد ولو بالتشبيه والمجاز بقطع الرقاب، فهذا ما قد يثير الخوف عند المسئولين فى المستويات الدنيا من الإدارة، ويجعلهم يتحسسون رقابهم طوال الوقت، ويتشتتون، فترتعش أياديهم، ومن ثم نعود مجددا إلى ترديد مقولة الأيدى المرتعشة التى كانت وراء إقالة الحكومة السابقة. مناسبة هذا الحديث، ماصدر عن أحد وزراء الحكومة، خلال اجتماعه بمرءوسيه بعد يوم واحد من تسلمه الحقيبة، قال الوزير: «إذا حدث تأخير أو تقصير فى تنفيذ برنامج العمل، فإن هناك رقابا ستطير». وبطبيعة الحال فإن معالى الوزير لم يقصد قطع الرقبة بالمعنى الحرفي، وإنما أراد أن يؤكد لهم أن مناصبهم التى يشغلونها مهددة، ويمكن تغييرهم بموظفين آخرين يكونون قادرين على أداء المهام الموكلة إليهم، وأراد أيضا أن يبلغهم رسالة تحذير شديدة اللهجة بأن من يتكاسل منهم، أو يتقاعس، فلا مكان له بيننا. عظيم جدا. إن الحسم والشدة، اللذين قد يبلغان أحيانا حد القسوة، يكونان مطلوبين فى بعض الأوقات. وعلى رأى الشاعر (قسا ليزدجر، ومن يك حازما، فليقس أحيانا، على من يرحم) لكن أن يبلغ الحسم حد «قطع الرقبة» حتى لو على سبيل التشبيه فإن ذلك ما يستوجب التوقف عنده قليلا، لطرح سؤال أو سؤالين: هل كان معالى الوزير على حق فى استخدام تشبيه قطع الرقبة؟ البعض سيجيب: «نعم» إن معه كل الحق، فكثير من العاملين بالحكومة الآن لايؤدون ما عليهم، ولن يفيد معهم إلا التهديد والوعيد. وقد يزايد صاحب هذا الرأى فيقول: «دول عاوزين قطم رقبتهم!»، بل وقد يزايد أكثر وأكثر فيتطاول على الشعب كله قائلا: «إحنا مانجيش إلا بالكرباج والعين الحمراء» وللعلم.. فإن هذا المنطق يتبناه الكثيرون منا، ويجاهرون به، وإن كانوا لايشغلون أنفسهم بمن بالضبط من هذا الشعب الذى يستحق الضرب بالكرباج! غير أن قطاعا آخر من الناس قد يحسب أن له الحق فى الرد على معالى الوزير، ويجادله قائلا: يا معالى الدكتور لقد ظللنا نتحمل ضرب الكرابيج طوال تاريخنا فماذا كانت النتيجة؟ إن كل شىء لدينا تأخر وتخلف، وسبقتنا أمم كانت تأكل أظافرها قبل سنوات قليلة. وارجع إن أردت إلى تقارير تقييم الأداء الاقتصادى والتعليمى والإعلامى والبحث العلمي، وراجع إن شئت معدلات الفقر والأمية والخدمات. إن معالى الوزير معذور فى استخدام هذه اللغة، وهو حتى لانظلمه لم يخترعها اختراعا، بل هى راسخة رسوخ الجبال فى تلافيف ثقافتنا وعقلنا الجمعي. ومن يقرأ تاريخنا القديم والحديث والمعاصر سيجد أن أجيالا متتالية تعرضت لقطع الرقاب، ومع ذلك لم نر إنجازا واحدا «عليه الطلا» من هؤلاء المقصوفى الرقبة.. ولا تحدثنى أرجوك عن بناء الأهرامات، فعصر بناة الأهرام راح وانقضي! إن الإدارة بقطع الرقبة باتت إدارة عفا عليها الزمن، وتحمل فى باطنها الدعوة إلى الاستبداد والإقصاء والتمييز، وهذا مانربأ بالسادة الوزراء الجدد أن يكونوا يفكرون فيه (مجرد التفكير). إنك عندما تختار الإدارة بقطع الرقبة تحدث فى المجتمع معضلات ثلاث: أولا: تذيع الخوف بين الناس، وإذا انتشر الخوف مات الإبداع وانعدم التقدم. ثم إنك ثانيا تستبعد قطاعا معتبرا من الإسهام فى بناء البلد، إذ كيف يبنى الناس بلدهم وهم خائفون؟ وثالثا، فأنت لايمكن أن تقيم مجتمعا ناضجا صالحا بينما الناس به «بلا رقاب». ومعلوم طبعا أن الرقبة هى التى تحمل الرأس، فإذا سقط الرأس الذى يحتوى على العقل، صارت الأمة بلا عقل، فى زمن يعتمد فى كل كبيرة وصغيرة على ازدهار العقل وتنشيطه. .. إلا أن هذا لايعنى عدم توقيع العقاب على المقصر، وإلا كانت دعوة للإهمال والفوضي. إن المطلوب هو أن يكون ثمة معايير واضحة للإنجاز والتقييم، وفق قواعد ولوائح علمية عادلة وصارمة ومعلنة وشفافة، تطبق على الجميع، ولا نعتقد أن قطع الرقبة منصوص عليه حتى الآن فى اللوائح! لمزيد من مقالات سمير الشحات