قبل عدة عقود مضت كانت الأوانى النحاسية الأكثر استخداما وانتشارا في الحياة اليومية للبيوت المصرية في الريف والحضر. وكانت جزءا أساسيا من « شوار العروس»، وخاصة في الريف، حيث كانت قيمة النحاس تالية مباشرة الذهب. وحين يتقدم شاب للزواج بفتاة فالاتفاق علي «النحاس» كان يرتبط بالكلام عن الذهب، فكما يُسأل عن جرامات الذهب التي سيقدمها لعروسه، تتم مفاوضته أيضا علي كم قنطارا من النحاس يمكنه أن يشتريها للشوار. ليتمكن أهل العروسين من التباهي بالذهب والنحاس معا أمام المجتمع بأوانى الطهو، والإبريق، والصواني، و«طشوت الغسيل»، وغير ذلك من الآنيات النحاسية. وكان النحاس يمثل مخزونا إستراتيجيا للأزمات، فإذا ألمَّت بالعائلات أزمات مالية «تفُك زنقتها» بثمن النحاس، لأنه مخزن قيمة سعره غالبا ما يزيد. ومن الطرائف المرتبطة بالنحاس أن الريفيين كانوا إذا ضبطوا لصاً لدي أحدهم، «يُشيّلُونه نحاس البيت»، ويدورون به في شوارع القرية ليُجرسُوه بفعل السرقة، ومن هنا جاءت كلمة «زفُّوه بالنحاس» دلالة علي فضيحة من يضبط بجريمة ويفتضح أمره بين الناس. وظل النحاس بمكانته إلي أن ظهرت أواني «الالومنيوم» كبديل له، وانتشرت الأطباق الخزفية، والميلامين، وتبدلت الأحوال جذريا، وانحصر دور النحاس في الإطار السياحي فقط، وباتت تصنع منه تحف فنية ذات طابع تراثي يشتريها الأجانب والسُيَّاح، أو يستخدم ديكورا في بيوت الأثرياء كأواني الزرع اللامعة، أو فى الفنادق لإضفاء جو شرقى في شهر رمضان مثل قِدرة الفول النحاسية . وكانت مهنة «تبييض النحاس» مرتبطة بوجود وانتشار النحاس، وكان «مُبيِّض النحاس» يتجول في القرى ويعلن عن قدومه لتأتيه النساء بأوعيتهن «المجنزرة»، أي التي اخضرَّ لونها، ويحط رحاله في مكان فضاء لعدة أيام، ويشتغل بحماس في تبييض الأواني بقوة ليزيل عنها «الجنزار» الذي أصابها، ثم يضعها علي نار حامية ليتمكن من طليها بالقصدير وهي ساخنة، فالحرارة الشديدة تساعد علي ذوبان القصدير وانتشاره علي سطح النحاس والالتصاق الشديد به، وتساعد النشادر علي اكتمال هذه العملية بسهولة، فتصبح الطبقة بيضاء وهذا سبب تسمية المهنة «مبيض». والقصدير كان يشكل طبقة عازلة للنحاس حتي لا يتفاعل مع الطعام ويفرز عناصر سامّة، وكان الجنزار دليلا علي انتهاء مفعول القصدير، وإشارة لضرورة التبييض. ولأن النحاس كان يحتاج إلي جهد كبير في تنظيفه، وسخونته الشديدة كانت تحتاج إلي قدرة هائلة علي الاحتمال، كان «مبيض النحاس» يقاوم الألم بالغناء الشجي، فيعفيه من التأوه، حتي لو كان الغناء غير مفهوم، المهم أن يتوافق مع حركة جسده، ويكون فعالا في مقاومة حرارة النحاس، ولكي يحرك جسده بحرية وكأنه يؤدي «رقصة التويست» كان يقبض بيديه علي شئ ثابت كشجرة، وإذا أنجز الإناء يقفز قفزتين سريعتين ليعلن اكتمال تبييضه ليبدأ في آنية أخري. ولا يغادر القرية حتي يكون قد أعفي أهلها وخلَّص أوانيها النحاسية من مخاطر الجنزار الأخضر.