لم يكن معتادا فى مصر من قبل أن يعرض منصب رفيع كوزير أومحافظ أو غيره على شخص فيرفضه، أو يستقيل مسئول من منصبه، ولكن المرحلة الانتقالية بعد الثورة شهدت مثل هذا الموقف يتكرر.. فما هى الدوافع الكامنة وراء هذا السلوك؟ الكاتب صلاح عيسى يرى أن حرية العمل أحد حقوق الإنسان، ولكل شخص الحق أن يكون لديه أسباب لرفض المنصب أو العزوف عن الاستمرار فيه، وذلك إما لشعوره أنه لا يؤدى كما ينبغي، أو الاعتراض على سياسة العمل المكلف به أو لأى سبب آخر. أما الهروب بعينه فيتجسد فى رفض الشخص المسئولية فى ظل الظروف الطارئة التى تمر بها البلاد، رغم تمتعه بالقدرات اللازمة لتوليها، وذلك تحت شعار أن الأجواء العامة صعبة وبلا ملامح واضحة، مما يعكس نقص الاحساس بالواجب العام لديه. وهناك وجه آخر للهروب من المسئولية كما يشير الكاتب الكبير، ويتمثل فى عدم اعتراف المسئول بأخطائه وعدم تحمل مسئولية ما يتخذه من قرارات والقاء المسئولية على آخرين من الذين يعملون تحت رئاسته ولا ذنب لهم فى ذلك الخطأ الذى وقع. كما يتمثل أيضا فى الأيادى المرتعشة العاجزة عن اتخاذه أى قرار خوفا من المسئولية أو التعرض للمساءلة فيما بعد. بينما يقول. قدرى حفنى أستاذ علم النفس السياسى إن مصر تواجهها صعاب كثيرة، فإذا ماعرضت مسئولية على شخص ما وقبلها دون تقدير لتلك الصعاب وبدافع من الشجاعة فقط، فهذا أمر غير مقبول وينتج عنه اضرار جسيمة أصبحنا غير قادرين على تحملها. ولكن الوضع السليم والصحى أيضا يتمثل فى قيام الشخص الذى يتولى المسئولية بتقييم قدراته واذا وجد نفسه يستطيع القيام بها فيحاول، واذا لم يستطع فعليه الاعتذار، لأن فى بعض الأحيان نجد مسئولا قد أخفق فى أداء دوره، فيبرر ذلك بأنه تولى المنصب تحت ضغط وهذا ما نرفض حدوثه. فالمسئولية «ثقيلة» كما يؤكد د. حفنى فإذا تحملها الشخص وأثبت جدارة علينا أن نشكره، وإذا اعتذر لأى سبب كان فعلينا أن نشكره أيضا وذلك لأنه رفض تولى مسولية لا يقدر على تحملها من خلال تجربته الشخصية، فالموافقة والرفض ترجع فى النهاية لتقدير الشخص لنفسه، وليس لأى شخص أو طرف آخر. وعن تحليل فكرة الهروب من المسئولية يوضح الدكتور محمد المهدى أستاذ الطب النفسى أن التهرب لدى البعض يكون خوفا من تقلبات المرحلة وإحساسهم بأن المنصب «سيطير»منهم بشكل سريع، ولن يحققوا فيه أى انجاز يذكر، بل قد يسىء إلى صورتهم وبالتالى يصبحون «ورقة محروقة» بعد خروجهم منه. وقد يكون المنصب كاشفا لقدرات الشخص حين يتقلده، فيكتشف الناس أن ما كان يتشدق به من مطالب وما يعلنه من شعارات ومبادئ وخطط ماهى إلا «طنطنات لفظية» تسقط عند أول اختبار عملي، وهنا يفضل الشخص الوقوف على منبر الزعيم أو المناضل أو المعلم عن التورط فى المنصب التنفيذى الكاشف والفاضح لعجزه وقصوره. وبعض الرافضين كانوا يطمحون فى مناصب أعلى تتحقق من خلالها أحلامهم، ولذلك كانت التضحية بالمنصب المعروض أو القائم سهلة، بل وتعطيه نوعا من الوجاهه الاجتماعية بأنه رفض منصبا رفيعا أو استقال منه. ويشير د. المهدى إلى أن الرفض قد يكون خوفا حقيقيا من أن الشخص لن يستطيع أداء مهمته بالشكل الذى يرضى ضميره كما يرضى معاييره فى الأداء فى مثل هذه الظروف المضطربة سياسيا واجتماعيا، وهؤلاء الأشخاص لا يستطيعون التهاون فى معايير الأداء، بل دائما مترددون فى قبول تحمل المسئوليات خوفا من التقصير. وهناك من يرفض المنصب أو يستقيل منه لاثبات موقف سياسي، إذ هو لا يقبل المنظومة السياسية القائمة، وبالتالى يرفض أن يكون جزءا منها أو يشعر أنه لا يستطيع العمل ضمن إطارها، أو انه كان قد بدأ العمل معها ولكنه اكتشف أن توجهات تلك المسئولية تختلف عن توجهاته ومبادئه، أو أنها ضلت الطريق فى نظره، أو انها ستصبح مدانة سياسيا أو شعبيا وهو لايريد أن يكون مدانا معها، أو انه يشعر أن المركب تغرق فيقفز منها قبل لحظة، «الغرق السياسي» وقد يكون يريد أن يرسل رسالة احتجاج ويرغب أن تصل للرأى العام المحلى أو الدولي) مفادها أن السلطة القائمة لا تفعل الصواب من وجهة نظره. ويلخص أستاذ الطب النفسى الموضوع فى أن بعض هذه المواقف قد يكون انسحابا من ميدان العمل العام وتقصيرا فى أداء الواجب الوطنى فى لحظات حرجة يمر بها الوطن انطلاقا من حسابات شخصية، وبعضها الآخر قد يكون اعلان موقف سياسى أو أخلاقى وتوصيل رسالة للنظام القائم وللمجتمع تهدف إلى تصحيح المواقف والسياسات والبعض الآخر قد يأتى من مشكلات نفسية وسمات اخلاقية تجعل الشخص متهيبا لمواقع المسئولية خاصة فى الظروف الصعبة التى لا تتوافر فيها ضمانات النجاح. د. عبدالمنعم المشاط أستاذ الأمن القومى بجامعة القاهرة يقول إنه فى ظروف التحول الديمقراطى ووجود أزمات حادة سواء فى الاقتصاد أو السياسة أو الجوانب الأمنية يصير تولى المسئولية جسارة شديدة من جانب من يطلق عليهم الشخصيات العامة، لأنه فى مثل هذه الحالات والتى تسيطر عليها السيولة السياسية أو الغموض السياسى يواجه هؤلاء اما نقصا فى الموارد المتاحة والمطلوبة لأداء مسئولياتهم، أو وجود توقعات كبيرة من المواطنين قد يعجزون عن الوفاء بها، أو وجود معارضة شديدة للوضع القائم نظرا لعدم وضوح الرؤية، فإن عددا كبيرا من هؤلاء المرشحين المحتملين والمؤهلين مهنيا لأداء الوظائف العامة يحجم عن تولى هذه الوظائف. وهنا يطالب أستاذ الامن القومى بعدة عناصر لتشجيع الشخصيات العامة المؤهلة لتولى وظائف حيوية فى هذه المرحلة وهى: وجود رؤية واضحة لاتجاه الدولة المصرية نحو المستقبل. تحويل هذه الرؤية الى برامج ومهام واضحة ومحددة. وجود الموارد المالية والبشرية لتحقيق هذه المهام. التطبيق المطلق للقانون مع وجود شفافية كاملة بين المواطن والمسئول. فإذا تم ذلك لن يتوانى أى مصرى عن القيام بمسئوليته تجاه انتقال المجتمع والدولة من حالة السيولة إلى مرحلة الانطلاق. فمأساة النظم السياسية المصرية حتى اليوم كما يوضح، د. المشاط هى غياب الشفافية تماما فى العلاقة بين المسئول والمواطن، والحقيقة أنه برغم قيام ثورتى 25 يناير و30 يونيو فإن دور المواطن فى مساءلة المسئول غائبة تماما، مما يؤدى إلى اقلاع المواطنين عن المشاركة فى تحقيق السياسات العامة للدولة. د. ايهاب فكرى كاتب وباحث فى علوم الادارة:يؤكد انه ليس كل معتذر عن مهمة هو بالضرورة هاربا منها، فالمعتذر قد يفعل ذلك لأسباب منطقية أو لأسباب أخرى غير منطقية وهذا هو الهروب. وهناك من يستطيع تحمل تلك المسئولية ولكن من كثرة ما شاهده من توابع سلبية لتولى البعض لمختلف المسئوليات، وكم المخاطر المحاطة بهم، فضلا عن وابل النقد الذى قد يطوله هو وعائلته من المجتمع فإنه يفضل الابتعاد عن ذلك المنصب وتلك المسئولية. ويشير د. ايهاب إلى أهمية دعم من يتحمل المسئولية من البيئة الخارجية كالرأى العام والصحافة والجماهير، فقد نشأت ثقافة معينة فى العمل العام تفيد بأن المسئول مجرم حتى يثبت العكس، ونحن نريد أن نعكس هذه المعادلة بحيث يكون المسئول قادرا على تحمل المسئولية ويملك المؤهلات وطاهر اليد حتى يثبت العكس.