يحسب للمهندس الفرنسي الذي استقدمه محمد علي والي مصر ومؤسس دولتها الحديثة قدرته الهائلة علي حسن قراءة نبض الرأي العام في تعامله مع التكليف الصادر له بوضع بناء القناطر الخيرية, حيث استشعر قلق وجهاء مصر وعلمائها, ومن ثم خشي من أن يتصاعد الغضب إلي عصيان يهدد نظام' السخرة' الذي كان يوظف نصف مليون فلاح للعمل' دون أجر' في المشروع, وتوجه من نفسه إلي محمد علي- ولم يشر إليه بكلمة واحدة عن مخاوف من العصيان والتمرد لإدراكه لطبيعة العناد التي تحكم قراراته- وأبلغه أن من الأسهل والأوفر في النفقات أن يتم استخدام حجارة جديدة من المحاجر بدلا من هدم الأهرام و اقتلاع أحجارها. وقد كان هذا التحول أحد المصاعب التي عطلت بناء القناطر الخيرية والتي استغرق بناؤها ثمانية وعشرين عاما, حيث جري افتتاحها عام..1861 وبنيت القناطر الخيرية.. وبقيت أهرامات الجيزة والحمد لله. والشيء نفسه حدث مع بداية بناء السد العالي.. كانت عملية إنشاء السد العالي, تستلزم إغراق منطقة النوبة بالمياه لإقامة أضخم بحيرة صناعية في العالم وهي' بحيرة ناصر'. وكان التحدي الكبير أمام العقل المصري محددا في كيفية المواءمة بين ما تفرضه التزامات التعمير ممثلة في بناء السد العالي وبين التزامات الحفاظ علي ثروة نملكها ويملكها التراث الإنساني العالمي مثل معبد' فيلة' ومعبد' أبو سمبل' وتم بناء السد العالي وتمت أعظم عملية لنقل وحماية هذه الكنوز الأثرية. والحقيقة أنه لا يكفي أن نتحدث فقط عن قدرة العقل المصري علي الانتصار في صراعه مع الطبيعة وصراعه الذاتي مع طموحه المشروع دون أن نؤكد بوضوح أن صراع العقل المصري مع الطموح' المنشود' كان دائما يجيء في إطار الالتزام بالقيم الروحية والتعاليم السماوية, فالمولي- عز وجل- عندما دعا الإنسان لإعمار الأرض كان يستهدف إعمال العقل البشري وإثبات قدرته علي بلوغ طموحاته المشروعة, ولو كانت في شكل تحد لقسوة الطبيعة. وفي اعتقادي أن الجولة الحالية لوزير الخارجية في دول حوض النيل تعني بوضوح أن مصر قررت أن تعيد قراءة تاريخها حتي تتمكن من ضمان استمرار نجاحها في صراعها المزمن من أجل حياة أفضل لشعبها وهي حياة ترتبط جملة وتفصيلا بنهر النيل. خير الكلام: منذ أصبحت أذنابنا رؤوسا لنا... غدونا بحكم الطبع نمشي للوراء! [email protected] المزيد من أعمدة مرسى عطا الله