أنصت بعناية شديدة, كما أنصت الكثيرون, لقراءة مواد الدستور الجديد, والأذن قد تفهم قبل العين أحيانا, ثم قرأته في تأن وتؤدة من غير إحساس بأي عقدة أو توجس أو سوء ظن, وحاولت أن أرصد بعض ملامحه وما تميز به عن الدساتير التي سبقته وقد كنت عضوا في اللجنة الأولي التي ذهبت مع النظام السابق. أقول نعم لهذا الدستور وقد حدد في كلمات جلية واضحة لا لبس فيها, ولا تحتمل شكا أو تفسيرا, حدد هوية مصر. إن الإسلام دين الدولة, واللغة العربية لغتها الرسمية ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع( مادة1) أليس هذا تحصيل حاصل للواقع المصري منذ ألف وأربعمائة سنة, لا مجال للمزايد, ولا خوف لأي إنسان يعيش علي أرض مصر وقد أكدت هويتها منذ قرون متصل, هي أمة واحدة ذات سيادة لا تقبل التجزئة ولا ينزل عن شيء منها نظامها جمهوري ديمقراطي يقوم علي أساس المواطنة وسيادة القانون, ثم تأتي( المادة4) لتؤكد أن السيادة للشعب وحده يمارسها ويحميها وهو مصدر السلطات ويصون وحدته الوطنية التي تقوم علي مبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين المواطني, وقد ناقشنا طويلا في اللجنة الأولي اقتراحا قدم بنص يقول: السيادة لله, وأسقط كلمة الشعب وكأنه يسقط دور ورسالة الإنسان المكلف من قبل خالقه ليكون خليفة له علي الأرض والإنسان أدري بشئون دنيا, وهل ينكر مؤمن أن لله السموات والأمر, وأن الحياة رسالة ووديع, وأن حق الإنسان في هذه الدنيا إنما مصدره هبة خالقه له, فالسيادة للشعب إنما هي منحة من الله ترفع من قدر الإنسان ولا تنقص من حقوق الله, وإن كان أهل القانون يقولون إن القانون أمر, وروح القانون أمر آخر, وأن القانون أمر والعدل أمر آخر, يمكن القول إن الدستور أمر وروح الدستور أمر آخر, فالمواد النظرية هي جسد الدستور, وممارسته وتطبيقه هي روحه وحياته. أزعم أن روح الدستور المصري الجديد تنزع بشدة إلي إعادة الكرامة للإنسان المصري, لشخصه كإنسان, لحقه كمواطن, فالدستور أكد حقوقه, رجلا كان أو امرأة, طفلا أو كهلا, صحيحا أو مريضا أو معاقا, عاملا أو فلاحا, غنيا أو فقيرا, عالما يحمل أعلي الشهادات أو بسيطا قليل الثقافة, لقد وضع الدستور الجديد الإنسان المصري نصب فكره واهتمامه, ومن ثم سقطت الطبقية والعنصرية والاستعلاء بالحسب والنسب, والتميز بسبب الدين أو العرق أو المذهب, فحرية العقيدة مطلقة والبشر كافة هم عيال الله, متساوون أمام القانون. إن النزعة الإنسانية لا تخفي في سطور هذا الدستور وأزعم أنها نزعة من صميم نسيج الإنسان المصري تتجلي بنوع خاص في أوقات الشدة والمعاناة, فهو لا يحب بطبيعته العنف وسفك الدماء والتدمير إنه صانع الحضارة وحامل ضمير الإيمان منذ عهود قديمة. في شجاعة وصدق أكد الدستور الجديد الوحدة الحضارية المصرية فمصر هي مصر, والمصريون هم المصريون لم يذوبوا في شعوب غازية أو محتلة لم تغير جوهر طبيعتهم في أي عصر بل ازدادت عمقا ورسوخا في بناء شخصيتها وخبرتها, وتميزت بمرونة فائقة في استيعاب أي ثقافة أو تطور أصاب العالم, لقد ازاح الدستور تراكم التراب ومهد الطريق لتوهج العقل المصري, وتقوية الإرادة الوطنية وأيقظ الوعي الوطني والإنساني لحقائق العصر, فمصر كما أشار إفريقية وعربية ومن أمم البحر المتوسط, إنها دولة طموح تسعي للخروج من كهوف العصور الوسطي واستشراف مستقبل واعد برغم زحام القضايا وثقل المسئولية, أكد صيانة والحفاظ علي المؤسسات التي تقوم عليها الدولة, حقوق القضاة فهم غير قابلين للعزل لا سلطان عليهم في عملهم لغير القانون( مادة184) وأعلن التزام الدولة بتحقيق المساواة بين المرأة والرجل في جميع الحقوق المدنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفقا لأحكام الدستور( مادة11) ونلاحظ أنها وضعت المرأة قبل الرجل في تعبير يتسق مع حضارة العصر, يرتقي بمكانتها ولا يبخس حقا للرجل ولا يتعارض مع قيمنا وتراثنا وإنما يفتح المجال لطموحات المرأة ويخرجها من عصور العبودية والرق. أما الأهمية القصوي التي أولاها الدستور للجيش وللشرطة( من المادة199 إلي المادة205) لا يمكن إدراك معناها وضرورتها إلا إذا عرفنا طبيعة مصر الدولة الزراعية الآمنة التي لم تعرف في تاريخها وجود ميليشيات أو مرتزقة أو عسكر, هذه تعبيرات لا تمت بصلة للذهنية المصرية, لقد عرفت مصر بجيشها من أبناء الفلاحين والطبقة المتوسطة, إن جذورهم النفسية والاجتماعية تمتد إلي أعماق الأرض والنيل والزرع, نفهم لماذا قال نابليون: أعطني جيشا مصريا أغزو به العالم, وتجربة محمد علي أثبتت سمة خالدة في الجيش المصري وحدته لا تمزقها ثورة أو قلق, أو فقر, أو عدو, فقد أقام جيشا مصريا ساد حوض البحر المتوسط خلال حكمه ودق أبواب الأستانة وهدد الامبراطورية العثمانية التي استغاثت بالغرب. إن انتماء الجيش المصري من أصغر جندي إلي أعلي قائد, انتماء خالص لمصر, الوطن, والشعب, والقانون, فالجيش المصري هو العمود الفقري لمصر التي تمتد سهولها الخضراء تحيط بنيلها الوديع وتسكب صحراؤها الغامضة الصامتة أمنا وسكينة, وفضاؤها الملتحف بالبهاء والجمال. وختاما إن هذا الدستور قد كتب, ومواكب الشهداء تطوف بأنحاء مصر, لتلهم المصريين بناء حضارة جديدة وتعلن لضميرهم أن أرواحهم هي بذور هذه الحضارة وطاقة خالدة لخلق حياة أفضل, كتب هذا الدستور وسيل دموع الثكالي والأرامل والأيتام لا يجف وأنين المظلومين والفقراء يتردد صداه في فضاء الوطن, نقول نعم لهذا الدستور نبض ثورة شعبية هائلة زلزلت الأمم والشعوب وكأنه يقول: هذه هي مصر الحقيقية بين أيديكم فماذا أنتم فاعلون بها ؟. لمزيد من مقالات د. الأنبا يوحنا قلته