ثمة' سبع سلطويات' قادت إلي ثورة يناير.2011 وهي: سلطوية الدولة علي المجتمع, والنخبة علي الجمهور, والأثرياء علي الفقراء, والمدينة علي القرية, والدولة العميقة علي الدولة الرسمية, والعسكر علي المدنيين, وسلطوية الخارج علي الداخل. وقد أدي الإخفاق في مواجه هذه السلطويات إلي تعثر الثورة المصرية في مسارها, كما أدي إلي ارتباك حسابات جميع الأطراف المتصارعة علي الساحة السياسية. المسألة الاجتماعية والأزمة الاقتصادية تحتل مكانة مركزية في جميع تلك السلطويات وإن بأشكال مختلفة. وسنبحث هنا فقط في السلطويتين اللتين تكشفان عن عمق التأزم الاجتماعي والاقتصادي في الثورة المصرية, وهما سلطوية الأثرياء علي الفقراء, وسلطوية المدينة علي القرية. سلطوية الأثرياء علي الفقراء تجلت بقسوة مفرطة قبل ثورة يناير, ولا تزال مظاهرها البائسة تؤثر علي وقائع الحياة اليومية للقطاعات الشعبية الواسعة من الفقراء وصغار الفلاحين والموظفين والعمال والمهمشين وسكان العشوائيات( بلغ عدد سكان العشوائيات16 مليون نسمة; أي ربع إجمالي سكان مصر حسب إحصاءات سنة2011). بعض الأرقام يكفي في الدلالة علي البشاعة التي بلغتها هذه السلطوية عشية انهيار نظام مبارك, ولا يزال المصريون يتخبطون في آثارها السلبية إلي اليوم. ففي عهد مبارك, كان هناك ما لا يزيد عن2000 من رجال الأعمال يستأثرون ب34% من إجمالي الناتج القومي لمصر. وهؤلاء وعائلاتهم انفصلوا عن السواد الأعظم من المصريين وتخطوا سقف' الطبقة العليا', وأصبح تعبير' القطط السمان' الذي أطلقه السادات علي أثرياء الانفتاح في السبعينيات مجرد نكتة قديمة. فهؤلاء الأثرياء الجدد دخلوا فيما يسميه باول فوسيل' طبقة عليا غير مرئية' أو' خارج نطاق الرؤية'. هذه الطبقة هي التجسيد القبيح للنيوليبرالية المتوحشة. أعضاؤها من سماسرة السلاح وأصحاب الأعمال والشركات عابرة القارات, يعيشون علي استغلال بقية أبناء المجتمع, ولا علاقة لهم بالوطن إذ يمكنهم التواجد في أي مكان في العالم وقتما يشاؤون, أو أن يأتيهم أي شيء من أي مكان في العالم وهم في مكانهم; وأغلب أوقاتهم يقضونها في الفنادق الفاخرة والطائرات الخاصة واجتماعات البيزنس, وحفلات الأفراح الأسطورية. وعلي الجانب الآخر هناك من هم' دون التصنيف الطبقي' ويشكلون غالبية كاسحة من المصريين وقد وصلت نسبتهم في بعض التقديرات إلي40% يعيشون تحت خط الفقر( أقل من دولارين للفرد في اليوم). وهناك أيضا45,5 مليون موظف حكومي بلغت مرتباتهم20 مليارا من الجنيهات سنويا. بينما بند حوافزهم التي يحصلون عليها بلغ35 مليارا سنويا. وهذه المفارقة بين مرتبات أقل وحوافز أكثر لها دلالة سلطوية بالغة الأهمية. ففلسفة تقليل أساس الرواتب, وتكبير الحوافز تجعل هذا القطاع الكبير من موظفي الدولة رهين الشعور بالأسر الدائم لرؤسائه, ولا يملك إلا أن يدين لهم بالسمع والطاعة كي يضمن حوافزه, وهؤلاء الرؤساء بدورهم أسري لمن فوقهم وهكذا. ومن جهة أخري بلغ الفرق بين الحد الأقصي والحد الأدني للدخل في مختلف القطاعات الاقتصادية مستوي فلكيا وهو في المتوسط1 إلي300.000,1 مرة. وفي الوقت الذي كان برنامج الغذاء العالمي يؤكد علي أن مصاريف الأسرة المصرية المتوسطة ازدادت بنسبة50% خلال الشهور الأولي من عام2008, كان وزير التنمية الاقتصادية آنذاك يصرح بأن المواطن المصري بإمكانه أن يعيش ب150 قرشا في اليوم( حوالي ربع دولار). التحليل الاقتصادي البحت لهذا الخلل الحاد يعني أن هذه السلطوية كانت قد بلغت أعلي مراحل قبحها في مواجهة الكثرة الفقيرة من العمال والأجراء والمهمشين عشية ثورة يناير. لدينا جملة من الاقتراحات لمعالجة هذه السلطوية ومن ذلك مثلا: وجوب تطبيق نظام الضرائب التصاعدية علي الإيراد العام. ورفع حد الإعفاء الضريبي علي دخول الطبقة الوسطي. ودمج بندي الأجور والمكافآت, وتخفيض الحد الأعلي للأجور إلي30.000 جنيها ليصبح الحد الأدني تلقائيا1300 جنيها دون تحميل الميزانية أعباء إضافية. وأيضا دمج الصناديق الخاصة داخل الموازنة العامة للدولة. ومد مظلة التأمينات الاجتماعية والرعاية الصحية لجميع المواطنين, ومنح العاطلين إعانة بطالة..إلخ. اليمين الليبرالي المصري يعيب علي هذا التوجه; بالقول إنه يحاول الجمع بين نظام السوق وقواعده, ومبادئ العدالة الاجتماعية ودور الدولة في إعادة توزيع الدخل, ويرون أن هذا جمع بين متناقضات لن يقدر له النجاح. أما اليسار المصري فيري أن تلك الرؤية تتوافق مع تطلعات شرائح الطبقة الوسطي التي تمثل القواعد الجماهيرية للتيار الإسلامي, وتندرج أيضا ضمن الشروط التي تفرضها الرأسمالية العالمية ومؤسساتها, وتنص عليها سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وهي سياسات تعزز حرية السوق, واحتكار القطاع الخاص أدوات الإنتاج, وتفتيت دور الدولة, وتعويم العملة, وقصر دور الدولة علي تهيئة المناخ العام للاستثمار الأجنبي. ومن ثم فهي تفتح المجال أمام دخول الشركات الأجنبية السوق المصري وتمكنها من السيطرة علي ما تبقي من أدوات الإنتاج وموارد الدولة, مع عدم وجود أي سياسة حمائية للاقتصاد الوطني. وعليه فإننا نكون مستمرين علي طريقة نظام مبارك في إدماج الاقتصاد المصري في الرأسمالية العالمية; دون مراعاة للاعتبارات الاجتماعية الداخلية ولخدمة مصلحة القلة فاحشة الثراء بنت النيوليبرالية. ولبعض تلك الانتقادات وجاهة; لكنها لا تعالج جذور المسألة الاجتماعية/ الاقتصادية التي أنتجت ما أسميناه' سلطوية الأثرياء علي الفقراء'. ونعتقد أن هذه المسألة يجب طرحها علي أرضية واضحة المعالم من حيث التأكيد علي أن' الملكية' هي أساسا' وظيفة اجتماعية' اكتسابا واستثمارا وإنفاقا; قبل أن تكون اختصاصا أو استئثارا. وأن يكون معلوما أن عدم تداول الثروة وفق قواعد العدالة الاجتماعية سيؤدي إلي تسلط مالكيها علي غيرهم, ويمنع من دخولهم في المجال العام, ومن ثم يمتنع' تداول السلطة' أيضا, ومن ثم يكون الإحباط الثوري بلا حدود والانفجار الثوري أيضا بلا حدود. لن ينفتح أفق لحل المسألة الاقتصادية/ الاجتماعية حلا جذريا إلا بتبني سياسات تغير أسس النمط السائد للتوزيع الجائر للملكية( ملكية عامة عرضة للنهب المنظم وملكية دولة مرتع للفساد وملكية خاصة مترفة وأنانية واستهلاكية). إن هذا النمط قد أهدر قيمة العدالة وجرح ضمير ووجدان السواد الأعظم خلال عهود الاستبداد وسلطوياته. ولعل أسوأ نتائج هذه السلطوية أنها ضربت' التوازن' الوظيفي/النسبي بين المدينة والقرية, وسحقت معنويات' الفلاح' و'العامل' وأفقدتهما إدراكهما الذاتي واعتزازهما بنفسيهما كفاعلين رئيسيين في بناء الاقتصاد الوطني. ولم يعد يطرق أسماع الفلاحين قول يستلهم قول محمد علي باشا' إن الفلاح المصري ولي نعمتي, والسلطان محمود ولي أمرنا'. ولدينا دليل طازج علي اشتداد سلطوية المدينة علي الريف. هذا الدليل يتمثل في أن لجنة الخمسين لصوغ الدستور حذفت نسبة50% عمال وفلاحين في مجلس النواب, وتركت لهم هذه النسبة في مجالس القري والمجالس المحلية!. الحل الذي أراه هو ما عبرت عنه الثورة المصرية بعفوية في شعار' العدالة الاجتماعية'. هذا الشعار يعني أن الوعي الجمعي المصري يدرك حقيقة التناقض الرئيسي بين' المترف الفاجر, والفقير الثائر'. ومع نمو عملية التمكين الانتخابي لشرائح عريضة من السواد الأعظم للمصريين, فإن جدلية' المترف الفاجر, والفقير الثائر' ستكون لها تداعيات بالغة السوء علي مستقبل الثورة المصرية إذا تم تجاوز' العدالة الاجتماعية'. لمزيد من مقالات د.ابراهيم البيومى غانم