لا يزال السواد الأعظم من المصريين يتذرعون بالصبر وطول النفس انتظارا لظهور بواكير العدالة الاجتماعية في ظل العهد الجديد, بعد أن ذاقوا الأمرين بسبب الظلم والفساد والمحسوبيات في ظل العهد البائد. ويحدو المصريين الأمل في عدالة اجتماعية ناجزة علي يد القوي الإسلامية التي تمسك بأعلي منصب سياسي في الدولة وتشارك بفاعلية في صوغ دستور جديد للبلاد, وتسعي لإثبات حضورها القوي في مختلف مؤسسات العمل الوطني. لكن ثمة ملاحظات نقدية بشأن سياسات العدالة الاجتماعية التي وردت في مجمل البرامج التي قدمها الإخوان وحزب الحرية والعدالة والسيد الرئيس في حملته الانتخابية. بداية علينا أن نعترف بأهمية القرارات الاقتصادية والاجتماعية التي اتخذها الرئيس مرسي مثل: إدخال المرأة المعيلة تحت مظلة التأمينات, ومضاعفة قيمة ما يحصل عليه أصحاب المعاشات, وإسقاط بعض الديون عن الفلاحين, وتسعير محصول الأرز لهذا العام(2012), والسعي لتصحيح سياسة دعم الطاقة لمصلحة الفئات الفقيرة والطبقة الوسطي; إلا أن برنامج الإخوان الاقتصادي في توجهه الأساسي لا يمس أصول سلطوية الطبقة المترفة, أو ما تسمي الOverClass. وما قدموه لا يمس أيضا النمط السائد للتوزيع الجائر للملكية في المجتمع( ملكية عامة وملكية دولة وملكية أفراد). كما لا يمس آليات هذا النمط المتخلف الذي أهدر قيمة العدالة وجرح ضمير ووجدان السواد الأعظم خلال عهود الاستبداد وسلطوياته المتراكبة. ومن ثم لا يقترب برنامجهم من المشكلة الاقتصادية/الاجتماعية بالمعني الذي أشرنا إليه, لا فيما أسموه مرحلة امتصاص الصدمة(2012 2015), ولا في مرحلة تهيئة الاقتصاد للانطلاق(2016 2020), ولا في مرحلة الانطلاق(2020 2025). ما يجعلنا نشدد علي أوجه القصور في سياسات العدالة الاجتماعية التي وردت في برامج الإخوان وحزب الحرية والعدالة وانتخابات رئاسة الجمهورية, هو أن العدالة الاجتماعية, كانت ولا تزال, هي القيمة الإسلامية الكبري التي راحت ضحية للسلطوية الترفية وسياسات الإفقار التي مارسها النظام السابق. بقي أن أشير إلي أن الزكاة, والأوقاف, والصدقات وغير ذلك مما استدعاه الإخوان في برنامجهم الاقتصادي من النسق الإيماني/الأخلاقي, يحتاج إلي كثير من المراجعات حتي يوضع في حجمه الصحيح, خاصة في واقع تطحنه سلطوية المترفين, وتدور فيه الجدلية الرئيسية لا بين الغني الشاكر, والفقير الصابر كما كان الحال في ظل الاجتماع السياسي الإسلامي القديم, وفيما قبل نشوء الدولة الحديثة, وإنما تدور هذه الجدلية اليوم بين المترف الفاجر, والفقير الثائر. ومع انهيار النظام القمعي, ونمو عملية التمكين الانتخابي لشرائح عريضة من السواد الأعظم الداخلين حديثا إلي المجال العام, فإن جدلية المترف الفاجر, والفقير الثائر يجب إعطاؤها ما تستحقه من الاهتمام. انتقاداتنا التي ذكرنا جانبا منها تختلف في الهدف منها, وإن كانت تتفق في بعض جوانبها مع انتقادات أخري توجهها القوي والتيارات السياسية المتنافسة مع جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة. فخبراء اليمين الليبرالي المصري يستنتجون من البرامج الاقتصادية للإخوان أنهم ينافسونهم في سياساتهم الاقتصادية, مع بعض المغازلات للطبقة الوسطي والفئات الفقيرة والمهمشة; سعيا لتأمين أوسع قدر ممكن من التأييد السياسي لحزب الحرية والعدالة في المنافسات الانتخابية, ومحاولة الظهور بأنه حزب الكل علي طريقة حزب العدالة والتنمية التركي. ويعيب اليمين علي الإخوان هذا التوجه; لأنه يحاول الجمع بين نظام السوق وقواعده, ومبادئ العدالة الاجتماعية ودور الدولة في إعادة توزيع الدخل, ويرون أن هذا جمع بين متناقضات لن يقدر له النجاح. أما خبراء اليسار المصري فيرون أن تلك الرؤية التي طرحها الإخوان تتوافق مع تطلعات شرائح الطبقة الوسطي التي تمثل القواعد الجماهيرية للإخوان, وتندرج أيضا ضمن الشروط التي تفرضها الرأسمالية العالمية ومؤسساتها, وتنص عليها سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وهي سياسات تعزز حرية السوق, واحتكار القطاع الخاص أدوات الإنتاج, وتفتيت دور الدولة, وتعويم العملة, وقصر دور الدولة علي تهيئة المناخ العام للاستثمار الأجنبي. ومن ثم فهي تفتح المجال أمام دخول الشركات الأجنبية السوق المصرية وتمكنها من السيطرة علي ما تبقي من أدوات الإنتاج وموارد الدولة, مع عدم وجود أي سياسة حمائية للاقتصاد الوطني. وعليه فإن الإخوان مستمرون علي طريقة النظام السابق. ولبعض تلك الانتقادات التي قدمها اليمين واليسار وجاهته; لكن لا هي, ولا رؤية الجماعة موضوع النقد, قد عالجت من وجهة نظرنا جذور المسألة الاجتماعية/ الاقتصادية التي أنتجت ما أسميناه سلطوية المترفين علي المفقورين. فبرامج الإخوان لم تطرح المشكلة الاقتصادية علي أرضية واضحة المعالم من أصول الرؤية الإسلامية للملكية, وكونها وظيفة اجتماعية اكتسابا واستثمارا وإنفاقا; قبل أن تكون اختصاصا أو استئثارا, وكي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم; أي كي لا يكون ما يجب إعطاؤه للفقراء وإنفاقه علي المصالح العامة واقعا في يد الأغنياء وحكرا عليهم من دون السواد الأعظم الذي أوصي به الرسول الأكرم صلي الله عليه وسلم. وقد تكون الحكمة في تحذير القرآن الكريم هو أن عدم تداول الثروة سيؤدي إلي تسلط مالكيها علي غيرهم, ويمنع من دخولهم في المجال العام, ومن ثم يمتنع تداول السلطة أيضا. أنا مع الرأي الذي يقول إنه في ظل غياب بديل قمعي يمكن أن يلجأ إليه النظام الجديد في المدي المتوسط بمصر, فإنه سيجد نفسه مضطرا للجمع بين نقيضي السياسات الشعبوية الاقتصادية القائمة علي التوزيع لمصلحة الفئات المتضررة من التحرير الاقتصادي من ناحية, مع الإبقاء علي أطر اقتصاد السوق الحر من ناحية أخري. ولكن إدارة هذا التناقض دون خسائر سياسية واقتصادية باهظة مسألة تفوق قدرة أي نظام يمر بمرحلة انتقالية; ولا يزال يسعي لتثبيت أقدامه في الأرض, ويشهد يوميا مظاهرات وإضرابات واعتصامات بشكل مفزع. وأعتقد أن أحد أسباب ذلك هو أن أطروحات الإخوان الاقتصادية لا تنال من سلطوية الرأسمالية المترفة لمصلحة السواد الأعظم, وهذا توجه غير تحديثي بالمرة, وغير ثوري بالتأكيد. وبالتالي فإن أطروحاتهم تلك لا تبني إلا نظاما سياسيا معزولا عن لب المسألة الاقتصادية والاجتماعية, التي هي واحدة من أهم أسباب ثورة يناير. نقلا عن صحيفة الاهرام